زوجة السَخَّام
يلمار سودربيرغ
ترجمة: فرمز حسين
إنها حكاية قاسية و
محزنة، سمعتها أكثر من مرة في طفولتي و كانت دائماً تهزني و تبعث القشعريرة في
جسدي.
هناك في طرف الشارع
بيت قديم ذو واجهة رمادية ملساء و مدخل له قوس من الأعلى دون زينة تذكر، نعم سنوات
عديدة و البيت هناك ربما كان مزيناً بمنحوتات من رسوم الفاكهة. كان مدخله يفضي إلى حديقة ضيقة مرصفة بطريق من الحصى و
فيها بئر مسجى بالحجر الأسود كالكثير سواه، لاتصله أشعة الشمس. في البيت شجرة
زيزفون هرمة مقطوعة الفروع و بأغصان سوداء نتيجة هرمها و أوراق قليلة متناثرة في
زوايا المكان. الشجرة معمرة من عمر المنزل
نعم ربما أكثر قدماً منه و هي كانت دائماً المكان المحبوب من الأطفال و القطط.
كانت تلك فيما خلت من
الأيام حديقة منزل السَخَّام فيتسمان.
السَخَّام فيتسمان كان
رجلاً متواضعاً و ناجحاً.جمع ثروة ضخمة من عمله. كان كريماً مع الفقراء و صارماً
مع عماله حيث هكذا جرت العادة أن تكون و ربما كان في حينها الحاجة هي التي تفرض
ذلك السلوك و كان دائماً يرتاد المقهى في القبو ليشرب "التودي" حيث كان
يشعر بالملل من بقائه في البيت.
زوجته كانت أيضاً
صارمة مع العمال و لكنها لم تكن كريمة مع الفقراء و لا مع أحد آخر.كانت قد عملت
كخادمة في منزل السَخَّام قبل أن تصبح زوجته الثانية. في ذلك الوقت كان الحسد و
الغيرة من ضمن صفاتها السبعة القاتلة. هاتان الصفتان كانتا الأقرب إلى طبيعتها،
أما الآن فإنه الغضب و الاعتداد بالنفس.
كانت ضخمة الجسم و
يقال بأنها كانت في أيامها الخوالي جميلة.
فريدريرك الابن شاب
مرهف و شاحب الوجه ، و هو مولود من زواج أبيه الأول و كانوا يقولون بأنه شبيه أمه و كان يتمتع
بعقل و حدس جيدين. و كان يدرس لكي يصبح
كاهناً. فقد أصبح طالباً لتوهه و حينها أصيب بمرض عضال ومزمن ألزمه الفراش شتاءاً كاملاً.
في جزء من حديقة
جانبية كانت تسكن خادمة منازل مع ابنتها ماجدة
هكذا كان اسمها لا أعلم مؤكداً، و لكنني كنت دائما
أطلق عليها هذا الاسم لنفسي عندما كنت صغيراً، و أسمعهم يتحدثون عنها كل مرة في
إحدى ليالي الشتاء المظلمة، و كنت أتخيلها
فتاة بوجه طفولي شاحب نحيل مغطى بشعر أشقر غزير و شفاه شديدة الاحمرار. كانت قي
الخامسة عشرة من عمرها و قد أنهت للتو مدرستها ربما لأنها للتو قد أنهت دراستها
كان يوحي لي بانها اذاً فتاة جدية و هادئة مثل تلك الفتيات الشابات اللواتي كنت أراهن أيام الآحاد في الكنيسة و كنت
أتخيلها دائماً و هي ترتدي فستاناً أسود أملساً طويلاً.
عندما تحسنت مع حلول
الربيع حالة الطالب جاءت ابنة الخادمة بطلب منه، لكي تجلس إلى جانب سريره، بعض
الوقت، و تقرأ له بصوت عال.
حرم فيتسمان لم يكن
ذلك يروق لها، فقد كانت تخشى أن يتطور ذلك إلى محبة بينهما. بالنسبة لها لامشكلة
أن يتعلق ابن زوجها بأية فتاة يريد و حتى لو خطبها لنفسه، و لكن ليس مع ابنة امرأة
تخدم في البيوت! كانت تنظر بعين الشك إلى ماجدة. و لكن كان لابد أن تدع هذا الأمر
يمضي بسلام، لأن الطبيب كان قد منع المريض
من أن يقرأ وهو مضطجع في الفراش، لأن نظره كان ضيعفاً، و كان ممنوعاً عليه إجهاد نفسه.
و هكذا كانت هي تجلس
بجانب سريره و تقرأ له بصوت عال من الكتب الدينية و العالمية، بينما الطالب كان
يبقى ممدداً، و هو يستمع إليها، مسترقاً النظر صوبها، بإحساس ملؤه الارتياح و
المتعة بوجودها معه.
كان فمها أحمراً جداً.
كانا في سن متقارب هو
لم يكن قد تجاوز السابعة عشر أو الثامنة
عشر من عمره، و كانا قد لعبا سوية مرات كثيرة، عندما كانا طفلين. قريباً سوف تصبح
علاقتهما أكثر حميمية.
حرم فيتسمان كانت
دائماً تجد لنفسها الذرائع لكي تدخل إلى غرفة المريض، و تعرف كيف تجري الأمور في
الداخل. الشاب و الفتاة لابد أنهما لاحظا
ذلك، و من المفروض أنهما كانا أكثر حيطةً،
لكن ليس في كل مرة يتصرف المرء كما يجب. في أحد الأيام فتحت المرأة الباب بصمت و حذر شديدين، و رأتهما في الوضعية
التالية. ماجدة كانت قد تركت مقعدها الذي كان موضوعاً على مسافة من السرير. كانت
واقفة منحنية و ذراعاها ملتفان حول عنق الشاب. هو أيضا كان قد نهض بنصف جسمه
باتجاهها، مستنداً بمرفقيه على الوسادة، و
هو يداعب شعرها بيد رقيق أبيض و هما يقبلان بعضهما بعضاً بحيوية. ومن حين لآخر
يتهامسان بكلمات مبهمة لبعضهما البعض.
زوجة السَخَّام انقلب
لونها إلى أحمر قاتم، و لم تتمكن من كبت الغيظ في داخلها، لقد آلت الأمور الى ما
هي كانت تتوقعه. و لكن الآن يجب أن تضع نقطة الانتهاء. الغضب و الاعتزاز بالنفس
صعدا في داخلها بينما هي واقفة متخفية هناك.
وبصمت تراقب الشاب و الفتاة اللذين لم يكونا ينتبهان لأي شي آخر سواهما،
من يعلم ربما الحسد و
الغيرة تسللا سراً من وكرهما إلى داخلها و لعب كل منهما على أوتاره في روحها.
لم تستطع التحمل أكثر
و اندفعت مباشرة باتجاه السرير. أمسكت بالفتاة من معصميها بيد من حديد و انهالت
عليها بشتائم مهينة و رمت بها إلى خارج الغرفة تحت وابل من أقذع السباب، ثم حلفت
أيماناً معظمة لو أن هذه الخادمة وطأت عتبة هذه الدار، مرة أخرى، فلسوف تشبعها
ضرباً لدرجة أنها لن تتمكن من الحركة قيد أنملة لمدة لاتقل عن أربعة عشرة يوماً.
لم يكن هناك من شك
بأنها سوف تنفذ وعدها.
الشاب لم يعاتب زوجة
أبيه في شيء. كل مرة كانت تمر من الغرفة كان يشيح بوجهه عنها إلى الحائط. لم يكن
يريد أن يراها و لا أن يكلمها بعد تصرفها مع ماجدة، و لكنه في أحد الأيام صارح
والده في حديث خاص بينهما فقط بأنه لن يستطيع الاستمرار في العيش إذ لم تصبح ماجدة
عروسه. السَخَّام العجوز اندهش و غضب و
لكنه لم يجرؤ على أن يخلق مواجهة جدية: الابن كان وحيد أبيه الذي كان يريده بعيداً
عن كل سوء و كان الوحيد الذي يبادله المشاعر و لم يكن يستطيع أن يتحمل فكرة
خسارته.
لكنه ترك الأمر
للمستقبل و أفشى بمتاعبه هذه لزوجته.
كيف أروي لكم الحكاية
؟ إنها تبدو كحلم شرير أو حكاية تروى لترهيب الأطفال العاقين و هي في الوقت
نفسه واقعية.
كان ذلك عشية يوم السبت من شهر أيار حين حدثت
الواقعة.
الحديقة كانت صامتة و
الشارع كذلك ، ربما ضجة خفيفة من نوافذ
أحد المطابخ من هنا أو هناك أو أصوات بعض
الأطفال وهم يلعبون عند السياج. المريض كان
وحده في غرفته يحسب اللحظات و الدقائق.
وهناك في الخارج كان الربيع قد حلّ و قريباً يأتي الصيف وهو لن يخرج أبداً من
عزلته و لن يسمع حفيف أشجار الغابة و
وشوشاتها. لن يستطيع أن يحسب الأيام ببعض من أوقات للعمل و أوقات أخرى للراحة؟ و
ماجدة التي كان يرى دائماً في وجهها نظرة
الفزع تلك. حين أمسكت زوجة أبيه بمعصمها. كان يجب ألا تتعرض لمثل ذلك الرعب و كان يجب على تلك المرأة
الشريرة أن لا تتمكن من ايذاءها فعلاً و بأنه اختارها كعروس له.
الشاب متمدد هناك
تراوده حيناً أحلام اليقظة و أحياناً يحلم وهو نصف يقظ. حدقتا عينيه تمتصان ضوء
أشعة الشمس المتساقط على الباب الأبيض و حين يغمض عينيه يجد نفسه في أرخبيل من الجزر الخضراء السامة محاطة بمياه
بحر بلون الحبر الأسود، و بينما هو مغمض العينين يتحول اللون الأخضر إلى أزرق و
اللون الأسود يصبح فاتحاً، و يتحول إلى
أزرق و أحمر مع أطراف بألوان شاذة غامقة،
و تصبح مع بعضها بعضاً سوداء جميعها.
يشعر بيد خفيفة تمسح
جبينه و ينهض قليلاً من السرير.
إنها ماجدة . ماجدة
ماثلة أمامه رقيقة صغيرة بابتسامة على فمها الأحمر و هي تضع باقة من أزهار الربيع
على غطاء سريره. شقائق النعمان. زهور
اللوز و البنفسج.
هل أنا في حلم أم في
علم؟
كيف تجرأتِ ؟ همس
قائلاً.
زوجة أبيك ليست في
البيت قالت ماجدة ، لقد رأيتها للتو وهي خارجة و كانت مرتدية لباس الخروج. لقد
سمعت بأنها سوف تذهب إلى حي الجنوب، و بالتأكيد سوف يأخذ ذلك وقتاً طويلاً حتى
تعود إلى البيت، و لذلك تسللتُ من على
الدرج لكي أجيئك.
مكثت طويلاً عنده وهي
تتحدث عن الغابة حيث ذهبت هناك وحدها و استمعت إلى تغاريد الطيور و قطفت له أزهار
الربيع لأنه أحبها، وتبادلا القبلات
كثيراً و داعبا بعضهما بعضاً كطفلين و
كانا سعيدين، فيما الساعات كانت تمر و أشعة الشمس التي كانت ساقطة على الباب
الأبيض تحول تدريجياً إلى لون أصفر محترق ثم
إلى لون أحمر، ثم اختفى كل ذلك ببطء.
ربما من الأفضل أن
تذهبي قال فريدريك ، قريباً ستصل عائدة إلى البيت . ماذا أفعل إذا أرادت أن تضربك
أنا المريض و الضعيف و الذي يصاب بالدوار لمجرد النهوض من الفراش. ربما عليك أن
تذهبي.
لست خائفة أجابت
ماجدة.
كانت تريد أن تثبت له
بأنها تحبه و أنها تريد أن تقاسي من أجل حبها.
و حتى جاء المساء و
حلّ الظلام قبلته لآخر مرة و تسللت خارجة من المنزل،في الحديقة وقفت دقيقة
و التفت متطلعة إلى نافذة الغرفة التي كان يرقد فيها والتي وضعت أزهار اللوز و البنفسج على غطاء
الفراش هناك. وحين استدارت لتذهب في
طريقها إلى الغرفة الصغيرة الت يتسكنها مع أمها
في الحديقة الجانبية رأت نفسها وجها لوجه مع سيدة فيتسمان و حينها صدر منها
صرخة ضعيفة.
لم يكن هناك أحد
باقياً في الحديقة غيرهما، و من حولهما
جدران تحدق النظر إليهما في الظلام، بنوافذ معتمة، فارغة، و الزيزفون الهرم يرتجف
في داخل ذلك الركن من المكان.
كُنتِ هناك عنده فوق..
قالت زوجة السَخَّام.
كنت أظن دائماً و أنا
طفل بأنها كانت تبتسم و هي تقول ذلك و أن
أسنانها كانت تضيء في العتمة مثل أسنان
عمال المداخن الذين يعملون مع زوجها.
لقد كنتُ عنده ربما
هكذا أجابت ماجدة بتحد و صراحة وهي شاحبة
من الخوف.
كيف تطورت الأمور بعد
ها؟ لا نعرف ذلك حقيقة، لكن من المعقول أن مطاردة قد حدثت في الحديقة قريباً من جذع شجرة الزيزفون الهرمة حيث تعثرت الفتاة و سقطت أرضاً. لم تجرؤ
على أن تصيح طلباً للنجدة لكي لايسمعها المريض ، ومن سوف يساعدها ؟ أمها كانت
بعيدة في العمل ، المرأة الهائجة أصبحت فوقها و كانت قد استحوزت حينها على سلاح
ربما كان ذلك عصا المكنسة أو شيئاً من هذ القبيل و ثم انهالت عليها ضربة تلو الأخرى. صرختين مخنوقتين
خرجتا من حنجرتها وهي محاطة برعب الموت. و لم تنطق بشي آخر بعد ذلك.
اثنان من عمال المداخن
التابعين لزوجها كانا قد عادا لتوهما إلى البيت من العمل كانا واقفين هناك و
يتفرجان لكنهما لم يتحركا خطوة واحدة لمساعدتها ، ربما كانا لايجرؤان، ربما كانا
يحملان أملاً ضعيفاً بأنهما ربما سيشاهدان ربة البيت، و هي تساق إلى السجن. عندها دخلت حرم فيتسمان إلى البيت، بعد أن
مارست صلاحياتها كسيدة للمنزل، لأنها كانت تشعر غريزياً بأن لها بالطبع حقاً في أن
تكون سيدة البيت على جميع من تستطيع إخضاعهم، و جميع من تريد أن تمارس
عليهم هذ الحق.. عندها اصطدم قدماه بشيء
ناعم، فنادت الخادمة لأن تجهز/ توفر/ تعد بعض الإضاءة، لأن المكان كان معتماً تماماً هناك فوق الدرج.
لقد كان ذلك
فريدريك كان قد سمع بذلك الصراخ الضعيف، و كان قد نهض من فراشه، و ركض إلى
خارج غرفته و منها على الدرج، و هناك كان قد سقط.
بقيت ماجدة، ثلاثة
أيام بعدذلك، على قيد الحياة، ثم ماتت، و دفنت.
السَخَّام فيتسمان دفع
مبلغاً من المال لأمها خادمة المنازل، و بذلك لم يحصل على أية محاكمة عن القضية.
و في الوقت نفسه أثّرت
الواقعة في الرجل العجوز فلم يعد يذهب إلى المقهى في القبو ليشرب"
التودي" و لكنه بقي جالساً في البيت على مقعده الجلدي، و هو يقرا في في إنجيل
قديم. غدا خائر القوى، صامتاً و غريب الأطوار و لم يمض عامً حتى مات هو الآخر،و
دفن.
ابنه فريدريك تعافى
تدريجياً من المرض لكنه لم ينه أبداً
تعليمه، ولم يحصل على شهادة كاهن. كانت قدرته على الفهم و ذاكرته قد أصبحتا
ضعيفتين. كان يُشاهَد كثيراً و هو يحمل الزهور إلى قبر ماجدة. كان يمشي بخطى ًمتسارعة جداً، أقرب منها إلى الركض وهو مائل بجسده إلى
الأمام، و كأن هناك قضايا عديدة عليه أن ينجزها، و في أغلب الأحيان كان يحمل كتباً
تحت إبطه، ثم غدت قواه العقلية ضعيفة أكثر، فيما بعد.
زوجة السَخَّام؟ كانت
ذات طبيعة قوية. هناك أناس هم حقيقة ليسوا عديمي الضمير، و لكنهم لا يشعرون
نهائياً بأنهم قد ارتكبوا ذنوباً. قد يحدث أن يأتي رجل يرتدي معطفاً بأزرار
لامعة، يربت على أكتافهم، و يطلب منهم أن
يتبعوه، حينها فقط يستيقظ ضميرهم. لكن
السيدة فيتسمان لم يأت أحد لأخذها. لقد وضعت ابن زوجها في مصحة عقلية لأنه كان قد
أصبح في وضع لايطاق في المنزل، و هي لبست
السواد حزناً على زوجها فترة كما يتطلب العرف و العادة، و بعدها تزوجت مرة أخرى، و حين ذهبت في يوم
الزفاف إلى الكنيسة. كانت ترتدي سترة من
الحرير بلون السفرجل، مطرزة بخيوط ذهبية و
مزركشة بآلاف السنانير.
هكذا قالت جدتي التي كانت جالسة في نافذتها في
البيت المواجه لهم، و رأت كل الواقعة، فيماهي تقلب صفحة في كتاب صلاتها.
ستوكهولم
2019-02-04
ترجمها عن السويدية
فرمز حسين
يلمار سودربيرغ
1869-1941