السبت، 10 أغسطس 2019

المهرج


المهرج
قصة: يلمار سودربيرغ
ترجمة: فرمز حسين
في الأمس، لمحت في الشارع  وجهاً مألوفاً يمرّ بجانبي. بدا  شاحباً مرهقاً، و لكن قسمات وجهه كانت حادة و مميزة.
لا أعرف  اسمه. لكنني متأكد من أنني رأيته سابقاً، ربما كان ذلك منذ وقت طويل جداً و لكنني لم أستطع التذكر متى و لا في أية مناسبة التقيت به؟. وجهه أثار اهتمامي دون أن أجد تفسيراً لذلك، استحضرت كل ما استطعت من  مخزون ذكرياتي القديمة  كي أتعرف عليه لكن دون جدوى.
في المساء كنت في المسرح. هناك تفاجأت بوجوده مرة أخرى على خشبة المسرح و هو يؤدي دوراً ثانوياً. كان متنكراً بشكل بسيط  فقط، تعرفت عليه مباشرة و بحثت عن اسمه بين المشاركين في العمل المسرحي، حتى عثرت على اسمه، لكنه لم يكن معروفاً بالنسبة لي . تابعت تمثيله باهتمام شديد. كان يلعب دور خادم فقير أحمق ، و كان مصدر سخرية الجميع. كان الدور بائساً و قد أداه بحرفية و اتقان، و لكن صوته في بعض الإيقاعات  كانت  تشوبه مرارة  و حِدة لم تكن تتناسب مع الدور.
أصداء تلك الأصوات بقيت في أذني حتى آخر الليل  و أنا أذرع غرفتي ذهاباً و إياباً . و أخيراً و بعد استعادة شريط طويل من ذكرياتي استطعت تصنيفه بشكل صحيح . لقد تذكرت بأننا كنا زملاء في المدرسة و لكنه كان يصغرني بضع سنوات. حيث أنا كنت في أعلى صفوف المرحلة الدراسية و هو في أدناها.
عندما كنت في أعلى صفوف المرحلة الأخيرة وكنت واقفاً أمام النافذة بعد الانتهاء من استراحة طعام الفطورو استراحات المدرسة كانت لها نكهة خاصة جداً. كنت غالباً غير متمكن من واجبي المدرسي  و لم أكن أحضّر للدروس كما ينبغي أيضاً لكن القلق الذي كان يعتريني قبل الحصة الدراسية كان يذوب في زحمة قلق الحياة الأكبر من خلال الاحساس المسبق بأن الأيام التي تنتظرنا سوف تكون خاوية بلامعنى مثل تلك الأيام التي مضت.وهكذا بقيت أذرع الغرفة جيئة و ذهاباً و يداي في جيبي سترتي و لم أستطع عمل أي شيء ، من حين إلى آخر أقف أمام النافذة المفتوحة و بينما كنت على ذلك الحال جذبت انتباهي تمثيلية غريبة تجري أحداثها أمامي في الحديقة تحت النافذة مباشرة، صبي صغير من تلك الصفوف الدنيا، غلام في العاشرة او الحادية عشرة من عمره ممدد على ظهره و محاط بصبيان آخرين على شكل حلقة من حوله. وجوه غالبيتهم على الأقل إن لم يكن جميعهم كانت تعطي انطباعاً بفضولية عارمة ذلك الانطباع الذي لا يستطيع الجهلة و الأطفال إخفاءه. و صبي آخر ذو منكبين عريضين و بوجنتين بارزتين كان يبدو قوياً جداً قياساً مع عمره. كان  واقفاً في منتصف الحلقة حاملاً بيده عصاً:
 أنت عبدي قالها للصبي الملقى على الأرض، أليس كذلك؟ هيا  قلّ: أنا عبدك!
أنا عبدك أجاب الطفل بدون تردد،  قالها بسهولة تدل على أنها ليست تلك هي المرة الأولى التي يقولها.
انهض تابع الصبي الآخر
الولد نهض واقفاً .
قم بتقليد"ب" كيف يبدو منظره حين يدخل الصف. "ب" كان معلماً و كان يسير على العكازات. الصبي مشى بضع خطوات خارج الحلقة  و كأنه يفسح لنفسه الحيز اللازم لانطلاقة جديدة ثم رجع إلى خشبة العرض المثير و هو يقلد بحركات ذراعيه و قدميه تماماً مثل من يسير على عكازات . كان يقوم بدوره بشكل ناجح جداً، الأداء كان معبراً  و الجمهور كان يهلل ، لكن الممثل الصغير كان جاداً ذو وجه نحيف شاحب و مرتدياً ملابساً سوداء . ربما كان للتو قد فقد والده أو والدته.
الصبي حاول أن يكون مطيعاً على الرغم من صعوبة تنفيذ ذلك ، ضحكته بدت مصطعنة بداية الأمر،  و لكن لم يمض وقت طويل حتى نجح في أن يضحك ضحكة حقيقية و طبيعية تماماً. التفت عندها إلى سيده و كأنه كان يضحك له ، لكن سيده كان أكثر تشوقاً لأن ينفذ عبده أدواراً فنية أخرى.
قلْ إن أبي شخص لعين وتافه .
الصبي نظر إلى الجمهور من حوله نظرة يائسة.  حينها رأى بأن لا أحد من بين الحضور يبدو عليه علائم الرغبة في  مساعدته بل على العكس أدرك بأن جميعهم متشوقون لرؤية لعب دور فني ممتع حقاً. بصوت خافت بقدر ما تجرأ قال:
أبي شخص لعين تافه.
و كان التهليل من الجمهور مدوياً .
"اضحك! – ابك!"
الطفل بدأ يبكي لكنه دخل الآن أيضاً إلى تلك الحالة العاطفية التي كان قد أُمر بها. نشيج البكاء عصى في حلقه و بدأ يذرف دموعاً حقيقية.
دعه و شأنه قال رجل مسن من داخل الحلقة إنه يبكي بكاءً حقيقياً. وفي اللحظة ذاتها رنت ساعة المدرسة.
بعد بضعة أيام شاهدته يركض أمامي و هو عائد من المدرسة . لاحظت بأن سترته كانت غير مرتبة عند الظهر .
انتظر قليلاً قلت له  سترتك بحاجة إلى ترتيب من الخلف .
لا قال إنها ليست بحاجة إلى ترتيب  بل أنها ممزقة لقد مزقوها بالسكين .
هل هم أيضاً من جعلوا من كتابك متسخاًهكذا؟ سألته.
نعم لقد و ضعوه في المزراب .
و لماذا هم يعاملونك بهذا السوء؟
لا أعرف! لأنهم أقوى مني!
لم يكن باستطاعته معرفة سبب آخر. لكن ذلك ليس السبب الوحيد ، لابد أن عندك ما يزعجهم . رأيت فيه بأنه ليس مثل الآخرين. الاستثناء والاختلاف المميز دائماً يزعج الأطفال و الغوغاء .
يعاقب التلميذ المتميز عن الآخرين بالتوبيخ و الإهانة أو بالضحك و السخرية و الجفاء من قبل المعلم. لكن من رفاقه  يعاقب بالركل و الضرب حتى يصبح وجهاً مغطىً بالدماء ، و سترة مقطعة و قبعة مرمية عن عمد تحت مزراب السقف  وأجمل كتبه تصبح مرمية في الساقية.
لقد أصبح فناناً إذاً،  هذا القدر  كان الأقرب له.  الآن يتحدث من  فوق خشبة المسرح لجمهور عريض. سوف يكون غريباً فعلاً إن لم يحقق نجاحاً مميزاً ، أعتقد بأنه موهوب و ربما يُحول تدريجياً استثناءه إلى نموذج في الوقت الذي يرضخ آخرون ويتحولون من  تميزهم ليصبحوا أناس عاديين كالآخرين.



المحاكمة ستيغ داغرمان


معلم فن الغياب
ستيغ داغرمان
على الرغم من مرور خمسة و ستين عاماً على موت " داغرمان" و أكثر من سبعين عاماً على صدور باكورة أعماله "رواية الأفعى"  فلا تزال هناك طبعات جديدة من كتبه ترى النور و تترجم إلى لغات أخرى .هذا بالإضافة إلى كتب تناقش نتاجاته الأدبية  باللغتين الإنكليزية و الفرنسية،   و حسب دار النشر العريقة "نورد ستيدت" : فإن داغرمان الى جانب "أوغست ستريندبيرغ "يعتبران من أكثر الكتاب السويدين تأثيراً. "ستريندبيرغ "هو  العملاق الذي يقف في القمة منادياً بأن ناره هي الأكبر في السويد و داغرمان يجيب بخجل بأن قلقه هو الأكبر .ففي الوقت الذي يعكس "ستريندبيرغ" في مسرحيته "لعبة الحلم "عن شعوره بالشفقة على الإنسان فإن داغرمان يضيف إلى ذلك في نص له بأن حاجتنا إلى المواساة لا حدود له.
 و واضح بأن داغرمان كان يبحث عن تلك المواساة المفقودة، من خلال كتاباته و على شكل هروب من واقع ثقيل لا يطاق، و من قلق مرعب كان ينمو و ينمو في أعماقه حتى تمكن منه.
مجموعته القصصية" ألعاب الليل"  صدرت عام 1947  أي أن كتابتها جاءت و ظلال الحرب العالمية الثانية كانت لاتزال مخيمة على أوروبا، و في الحروب الأقوياء و المنتصرون فقط هم الذين يحظون بالاحترام. أما الضعفاء فليس لهم قيمة و لاذكر و يتم نسيانهم .هؤلاء يريد داغرمان إظهارهم في قصصه.
"داغرمان "عاش حياة قصيرة  جداً فقط ، لم تتجاوز واحداً وثلاثين عاماً، كانت حياة غزيرة بالانتاج الأدبي. أصبح كاتباً شهيراً و هو لايزال في السادسة و العشرين من عمره، و بعد ذلك بخمس سنوات مضطربة سوداء و صعوبة و تعثر ، بل عقم في الكتابة، و فشل عاطفي في زواجه، و متاعب مادية و ديون، كل تلك العوامل قادته إلى أن يضع نهاية لحياته منتحراً، بعدعدة محاولات غير مكتملة سابقاً.
 الكاتب و الناقد الإيرلندي المعروف "كولم تويبين" يصف "داغرمان في تقديمه للطبعة الحديثة من ألعاب الليل : بأن" داغرمان" هو معلم فن الغياب، و معلم الفوارق الدقيقة عند المفقود و عند الذي لا يستطيع التعبير .
القصة المرفقة من "مجموعة ألعاب الليل" و هو النص الذي يظهر فيه جلياً تأثره بكافكا.


المحاكمة

قصة: ستيغ داغرمان
ترجمة: فرمز حسين

من الأفضل أن أوضح لك منذ البداية، قال القاضي و هو يخرج" لعبة المقصلة "من جيب صدريته، من الأفضل أن أوضح لك منذ البداية بأننا نعرف الحقيقة. و لذلك من الأفضل لك  أيضاً أولاً و أخيراً أن تعترف، و ألا تصعب الأمور على نفسك بمرافعات تعترض من خلالها، و أخبرنا بالضبط لماذا سرقت كسارة جليد الدولة؟
وضع القاضي المقصلة على الطاولة بينه و بين "بيتروس. ج" و وضع تحت القاطع عود كبريت و تركه يسقط، و لكن النتيجة لم تكن كما أراد لها أن تكون . لذلك ضغط فجأة على زر من أزرار الطاولة، و عندها ارتفع  مصعد إلى الأعلى عبر طوابق البناء.
ماذا مرة أخرى؟ صرخ البواب و هو يدفع الباب بعنف لدرجة أن الغرفة كلها ارتجت.
هدىء من روعك قال الحاكم معقباً، من فضلك حافظ على المقاصل في وضع أحسن انظر انها لا تقطع حتى أرفع نوع من أعواد الثقاب التركي. إنها فضيحة أقول إنها فضيحة ياسيد.
البواب أسرع ودون أن يشعر بحرج من وجود " بيتروس .ج " بدأ يشحذ المقصلة بمبرد . كان من الصعب إسماع الآخرين في تلك الجلبة و لذلك انحنى "بيتروس. ج" على القاضي و صاح في أذنه:
سيدي القاضي  أنا يجب أن أعترض: أولاً : إنها ليست قضية سرقة، و لكنها عبارة عن مسألة استعارة مؤقتة بغرض عبور مجرى مائي كبير، و ثانياً : فإنها ليست كسارة جليد الدولة بل إنه مجرد قارب تجديف لا أهمية له، و ربما هو من أقل قوارب التجديف قيمة. و على فكرة كيف لرجل وحيد مثلي ليس له  حول و لا قوة  أن يستولي على كاسحة جليد الدولة كلها.
الشاهد همس للقاضي: لا تنس الشاهد ياسيدي!
فجأة توقف البواب عن الشحذ ، القاضي أمسك بيد الرجل، و وضع اصبعه الخنصر تحت المقصلة ثم هوى بها و تم فصلها بسهولة، و سقط الإصبع في صندوق صغير كان على الطاولة. القاضي أمسك باصبع الخنصر و رماه بسرعة، و لكن بعناية ظهرت واضحة من استقامة الملاءة التي كانت على كتفيه، حين رمى العلبة في سلة المهملات:
عال ، قال  القاضي موجهاً كلامه للبواب معك إجازة مرضية بما تبقى من النهار.
"بيتروس. ج" الذي كان يتابع الطقوسية باهتمام مفزع بدا و كأنه لايزال غير فاقد للأمل من الوضع. حتى أنه حاول الابتسام حين نظف القاضي المقصلة بمحرمة ورقية.
الشاهد ربما أخطأ في الرؤية  قال أخيراً. أنا متأكد بأنها رؤية خاطفة للشاهد لدرجة أنه لا يستطيع التمييز بين قارب التجديف و كاسحة الجليد.
الاعتراض غير مقبول، قال القاضي دون أن يتوقف عما كان يقوم به: تفادياً لعدم الخلط فإننا نعتمد الآن فقط على الشهود العميان. لقد تبين لنا في مراحل متقدمة بأن القضايا تتعقد أكثر مع الشهود الذي يتمتعون بالرؤية لأن المتهَمين يحتجون دائماً بأن الشاهد قد يكون مخطئأً في رؤيته، و إلى ما هنالك من أعذار مع نظام المحكمة الحالي الغير مجدي نفعاً.
و لا نبالغ إذا قلنا بأن الحقيقة هي التي  سادت بعد تطبيق نظام الشهود العميان، فحتى الآن  لم يعد أحد ينكر ارتكابه لجريمته، بل الجميع يجثون على ركبهم أمام القانون و يعترفون بكل شيء.
عندها صاح" بيتروس. ج ". و هو ينزل جاثياً على ركبتيه أمام القاضي:
 عيون العدالة ترى كل شيء، العدالة فوق الجميع، أنا أقر و أعترف بكل شيء.
لقد كنت في صحبة الفلاسفة طوال الليل، و مع حلول الفجر قدمت بمفردي إلى مرسى القوارب في المدخل العام، ووقفت هناك  لكي اتأمل الماء. و غريب أنه في تلك اللحظة توارد إلى ذهني  مَثل الفيلسوف القائل (كل شيء يطفو على السطح) و فعلاً رأيت كل شي قد طفا،  القوارب الصغيرة و القوارب الضخمة ، الجزر ببيوتها و أشجارها، الطيور البيضاء و العوامات الحمراء. لماذا لا تطفو أنت  أيضاً "بيتروس. ج" سألت نفسي و شعرت بأنني يجب أن أتحرك . أستعير قارب تجديف، وأستقله
 فكرت بداية الأمر
 وعندها خطر لي كل ما يمكن أن يحدث لقارب تجذيف، العواصف قد تأتي على حين غرة و تحطم القارب الهش، الشتاء قد يأتي فجأة و يشكل موانع  من المياه المتجمدة، و يُجبر المرء على البقاء بين  حيوانات البحر منتظراً قدوم الربيع بينما الأولاد و أمهم يتضرعون جوعاً . لا  قلت في نفسي إنه لأكثر أماناً  و أكثر أخلاقية أن آخذ كاسحة جليد الدولة، و هكذا شربت شيئاً ما من أحد البراميل التي كانت هناك على المرسى، و سحبت كاسحة الجليد من اليابسة بوساطة رافعة قوارب. فكرت أن أسير بها لكنني لم أجد مجاديف طويلة. عندها دخلت إلى غرفة المحرك و أشغلته بقوة، و بعد ذلك توليت قيادته و بسرعة أقلعت به إلى الأمام باتجاه "تيغل فيكن"خليج القرميد "مع بداية شروق الشمس، و طوال الوقت كان ينتابني شعور رائع بأنني أطفو حسب نظام فلسفي متكامل. بسرعة فائقة وصلت إلى المرسى،  و قفزت إلى اليابسة لكي أربط كاسحة الجليد في نفس اللحظة  التي وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام فوج المدرعات. لاتتحرك من البقعة التي أنت فيها، صاح أحدهم و هو يرفع الغطاء عن أحد المدافع:
لاتتحرك اذا أردت تجنب إصابة من سلاح الدفاع الجوي في قدميك!  و البقية أنتم تعرفونها سيدي القاضي. و الآن احكمني ، عاقبني ، اعطني الجزاء الذي أستحقه.
لأجل كاسحة جليد الدولة قال القاضي باهتمام و هو يفرغ علبة الكبريت التركي من العيدان أمام المقصلة، لأجل كاسحة جليد هناك عقوبة واحدة يمكن الحكم بها، و لكن قبل ذلك أريد أن أطرح عليك  سؤالاً: ماذا تظن إذا جميع السكان في هذه المدينة فجأة خطر لهم فكرة ان يستولوا على مملتكات غيرهم بنفس الطريقة السهلة التي أنت فعلتها؟
سيدي القاضي أجاب" بيتروس. ج " بما تبقى لديه من اعتزاز بالنفس: إن الظرف الوحيد الذي يخفف على الجنس البشري هو تحديداً أن دوافع الإجرام لا تحدث للجميع في الوقت نفسه بل تحدث خلال فترات زمنية متباعدة وبذلك فإن  إمكانية القيام بعمل إجرامي مقتصرٌ على أعداد محدودة فقط من الناس.
عندها ضرب القاضي على الطاولة بقبضته لدرجة أن المقصلة سقطت.
سوف أخرجك من عنادك قال صائحاً  أدخلوا الكلب الذي يستقصي الحقيقة.
الباب انفتح جزئياً و أُدخل كلب ألماني بني صغير بأُذنين متدلتين ، فجأة وجد" بيتروس. ج" نفسه ماسكاً زمام الكلب بشدة  فيما الكلب يجره خلفه من خلال بناء المحكمة. نزلوا أدراجا لا تحصى،  و شعر بالحرارة تزداد أكثر فأكثر." بيتروس .ج "تعرّق و بدأ بخلع ثيابه قطعة بعد الأخرى و يرمي بهم على عتبات الدرج، عارياً مع الكلب و جد نفسه أمام باب دوار  فدخل من خلاله برفقة الكلب ومنه  إلى قاعة ضخمة برسوم كبيرة من الموزاييك على الأرض. شرطي يرتدي ملابس السباحة فقط، و يمارس لعبة القفز على مربعات من الموزاييك مستخدماً شارة الشرطة. كانت الحرارة فظيعة و على طاولة مكتب في آخر القاعة يجلس شرطي آخر بلباس السباحة أيضاً، و بشعار ذهبي فقط مثبت على صدره بإبرة، الرجل كان يضغط دون انقطاع على أزرار حمر اء وخضر اء و بنفسجية.
ماذا تعني لك  تلك الألوان سأل "بيتروس. ج"  الكلب متلعثماً.
أوه.. انها لا تعني شيئاً أجاب الكلب لاهثاً فقط من لديهم عمى الألوان يتم تعينهم في تلك الأماكن.
الرجال الآخرون بملابس الرياضة كانوا ينفذون تماريناً رياضية ، يضعون فيما بينهم خيوطاً مطاطية و يطورون مهاراتهم بالحركات الرياضية . فجأة  لاحظ "بيتروس .ج" صفاً طويلاً من نوافذ الأفران  مثبتة على الجدران حيث لابد أن الحرارة كانت تخرج من خلالها. أخذ معه الكلب و فتح إحدى النوافذ و دون تفكير، مصعوقاً  ارتد إلى الخلف وأراد الهروب لكن الوقت كان قد فاته فالرجال الذين يرتدون ملابس السباحة شكلوا طوقاً مانعاً من حوله، و أجبروه على الاستمرار في النظر إلى جهنم . في الداخل  كان هناك رجل مسكين مربوطاً بعمود، فيما ألسنة لهب نيران حمراء فظيعة بين الفترة و الأخرى تدور حول جسده مثل نبتة متعرشة.جهنم بقطرة ماء قال هامساً و الجنة بقطرتين.
ماذا فعلتم صاح به " بيتروس. ج "من خلال الفتحة، أية جرائم شنيعة ارتكبتوموها لكي تنالوا هذا العقاب ؟
بالنسبة لي لا يستطيع أحد إنقاذي قال أحد المحكومين أنا استخدمدت مرحاض القطار حين كان واقفاً في إحدى المحطات.
استمرا في السير "بيتروس. ج" و الكلب الذي يستقصي الحقائق،  شاهدا من خلال فتحات أفران كثيرة أعداداً من المحكومين الذين كانت تدور من حولهم  ألسنة نيران حمراء أو خضراء أو بنفسجية.
 لا منقذ لي لأنني هوموسيان* و لقد كتبت مرة عن رأي بالهوموسيان.
و لا منقذ لي قال آخر و هو يئن:
 لقد أخطأت في اللقب فأسميت كونتاً بالبارون خلال عشاء الأبرشية.
و لا شي ينقذني همس آخر انا اختلط على الأمر فلم أميّز بين "شوبين و موزارت "خلال اجتماع لجميعة حديثة التكوين.
و لا إنقاذ لي هدر رابع
 أنا في إحدى الليالي قمت باستعارة قارب تجديف لم يكن أحد آخر بحاجة إليه، وأمام تلك الفتحة توقف "بيتروس. ج" مندهشاً و هو يتأمل اللهيب الأخضر بينما الكلب يداعب قدميه.
لكل زائر يأتي إلى هنا فجوة يتوقف عند مدخلها متشبثاً و مندهشاً لاكتشافه بأنه ليس وحده هنا كما كان يعتقد من قبل، بل هناك أحد ما في الداخل  لدرجة أن أحياناً يجب جرّه من هناك بالقوة فأنه غالباً يريد الزحف من الفتحة إلى الداخل على الرغم من أنه لا يزال حياً.
بعنف طفيف جره الكلب من تلك الفتحة الى الفتحة التالية. كانت خالية و لكن بوثبة فجائية قفز الكلب إلى داخلها:
من المفروض أن أكون مستقصياً للحقائق قال الكلب و هو يلهث بشدة ..كنت أريد البحث عن الحقيقة .. لكنني ..لكنني  استعملت أحد الأعمدة التي على اليمين بدل اليسار في الحديقة العامة .
و لكي يتجنب "بيتروس. ج "مشاهدة تلك المعاناة أيضاً ترك غطاء الفتحة و انطلق خارجاً إلى البرودة،  حاملاً لباسه على ذراعيه، و دخل غرفة القاضي.
انظر يا شاب
 صاح القاضي به مشجعاً و هو يضرب على كتفيه :
 ها أنت فيها الآن . مارأيك بحكم إعدام صغير؟
إعدام ، قال "بيتروس .ج "كنت أظن ...
نحن لا نعدم البشر قال القاضي، لأسباب إنسانية لانعدم البشر ، فقط أعواد الكبريت انظر بنفسك .
و حين نظر "بيتروس .ج" . إلى الجزء السفلي من جسمه لاحظ كيف قدماه نمتا و اتحدتا مع بعضهما البعض، ثم  تحولتا إلى شجرة بيضاء رفيعة. و بينما الكبريت بدأ بالنمو في رأسه و قبل أن ينحدر  نزولاً إلى حنجرته صاح :
سيدي القاضي افعل بي ما تشاء !  اقطع رقبتي  احكم علي بالعذاب في النار الأحمر ، الأخضر ، البنفسجي، حولني إلى كلب . ولكن ارحمني من شيء واحد فقط ! لا تحولني إلى قاض! حولني إلى أي شيء كان لكن لاتجعلني قاضياً. 





ستيغ داغرمان
1923-1954

حاشية
*هوموسيان : نسبة إلى أسقف بالاسم نفسه و هم من يرون بأن ابن الإله هو نفسه الإله.
المترجم

فرمز حسين
كاتب و مترجم سوري
ستوكهولم
2019-08-10
نشرت ترجمة القصة  بموافقة من مالكي حقوق مؤلفات ستيغ داغرمان ، ستوكهولم، السويد.
(published with the approval from the Stig Dagerman Estate).