الثلاثاء، 14 مايو 2019

الكابوس


الكابوس
قصة: يلمار سودربيرغ
ترجمة: فرمز حسين
حلمت الليلة الماضية بأنني في غرف لا نهاية لمساحاتها , غرف عالية، غرف صامتة. مهجورة و مقفرة  كل أماكنها. غبار كثيف يغطي المفروشات و المنصات ، نقوش مضحكة قديمة على الجدران.صمت ممل ، صمت كالذي يعانيه الأطرش، بذلت قصارى جهدي لالتقاط صوت ما من الجوار لكن دون فائدة. إنه مكان منسي تماماً و مهجور تماماً, خُيّل لي بأن رجلاً غنياً جداً يملك مزارعاً و قصوراً كثيرة  لدرجة أنه لايتذكرها جميعها, وهذا المكان هو من بين ما نسيها. ربما أنه أيضاً قد بدأ يكبر في السن وغدت  ذاكرته تخونه. لكن أنا ماذا أفعل هنا ، و كيف وصلت إلى هنا؟ لقد نسيت. أنا الذي كان لدي عملاً ضرورياً لقضاءه في المدينة ، لكنني لا أتذكر ماذا ... و غريب أن يكون يوماً شاحباً مائلاً للاصفرار .انه لا يزال بداية النصف الأول من النهار كيف يكون بهذا الشحوب؟
 حلول الغسق يبعث فيني الخوف.
أحاول جاهداً التعرف على الأشياء الموجودة في الفناء و أحاول أن أتذكر نفسي في المكان من جديد. يتخيل لي بأنني كنت هنا من ذي قبل، مرات عديدة . كان يجب أن أشعر بالألفة مع هذا المكان، لكنني أجد استحالة في إعادة ترتيب ذكرياتي. تماماً كاحساسنا عندما نحاول تذكر اسماً , مصطلحاً أو  تعبيراً ما كنا قد اعتدنا تداولها مرات عديدة . يكون على أطراف اللسان , هكذا يتخيل لنا و لكننا مع ذلك لا نستطيع أن  نتذكرماذا.
أرتالاً هامدة من المقاعد ذي المساند العالية . بيانو قديم يكشف عن أسنانه بعيداً هناك في المكان النصف مُعتم.
اقتربت و أردت أن أعزف بعض الألحان و لكن لا صوت يخرج من الأوتار. قبعة دائرية مُترَبَة و ملقاة فوق خشبة البيانو.  يا للسخافة, الأحرف الأولى من اسمي منقوشة في أسفلها . تمعنت في القبعة عن قرب . لكن هذه قبعتي, إنها نفس القبعة التي اشتريتها من" فريدس غاتان" منذ أيام .كيف وصلت إلى هنا  و كيف أصبحت قديمة بهذ الشكل؟ و غيرعصريةً أيضاً أصبحت.التل يضيق صعوداً و كذلك هذه المجالس الواسعة القديمة السخيفة!
أظن بأنني  أريد البكاء لو أنني استطعت ذلك.
لكن اسكت قال مناجياً نفسه ...أحدهم يناديني  باسمي هناك في مكان ما من بعيد.
أتابع سيري, أليست لها نهاية هذه المساحات من الغرف ؟ ألا نصل أبداً إلى الأخيرة منها, أليس هناك مخرج؟
مرة أخرى أُنَادَى باسمي. لابد أنه قريباً من هنا , في هذا الطابق يجب أن يكون . أريد أن أسرع, أريد أن أركض, و لكنني أحس بركبتيّ ثقيلتين من تحتي, و بصعوبة كبيرة أستطيع بالكاد التحرك. هذا الصراخ لابد أنه آت من الغرفة التي في الداخل . انها دائرية أو أنها ذي ثمانية جدران، انها غرفة برجية . و لكن ليس لها مخرج، يعني العودة يجب أن يكون من طريق الدخول نفسه أي من خلال تلك الغرف المقفرة جميعها.
للمرة الثالثة أُنَادَى باسمي !
من ينادي، من ينادي؟ هناك في ركن البيت، في داخل العتمة. سرير واسع بستائر ثقيلة.  رجل عجوز ذي وجه شمعي شاحب أصفر ممدد فيه و يحدق النظر فيّ  بعينين جاحظتين  و لامعتين كالزجاج.. كالزجاج... لماذا هذا الرجل العجوز ممدد هنا هكذا وحيداً و هكذا منسياً ؟ لماذا هذا الرجل العجوز مُلقى هنا؟.
شعرت بجسدي منهوكاً و منهاراً و كأنني محطم الأطراف, مؤكداً لقد أصبت بالشلل. لم أبدي أية محاولة للخروج .لم أستطع حتى أن أعيد  الستارة التي أزحتها بيدي اليسار منذ قليل .
أنا شاب و هو عجوز، أنا أنا وهو هو و في الوقت نفسه هو أنا.
الرجل الذي في السرير هو أنا . هو أنا. و لابد أنني بقيت عالقاً في السرير و أنا الآن أحدق في نفسي .
من خارج السرير.
 طقس ضبابي و حقول خضراء داكنة , نباتات الذرة  تتمايل من نفسها ببطء لأنني لم أحس بأي هبوب للرياح ، سكون تام كالليل.
مشيت و أنا أمضغ قشة و أفكر في لاشيء . الطريق كان متعرجاً و أبيضاً  بين الحقول . نباتات الذرة كانت قد نمت بطول قامة رجل على الجانبين.
 سمعت أحداً ينوح و يعول بالقرب من المكان. مشيت و أنا ما بين  الخائف و اللامبالي و حاولت أن أتظاهر بأنني لم أسمع شيئاً أو أنَّ ما سمعته غير صحيح أو أن ذلك كان مجرد تخيل .
لكنه عاود النحيب و هذه المرة تماماً بالقرب مني. لم أتمكن من الاستمرار في السير. ركبتيّ عجزتا عن حملي. كان عندي شعور بأن في انتظاري حلقَة مؤلمة ، حلقة شعرت بها مرة أخرى سابقاً منذ زمن بعيد. عمدت إلى إزاحة نباتات الذرة جانباً و حينها رأيت رجلاً عجوزاً ممدداً على الأرض و ألقى بنفسه باكياً . لم أتعرف عليه، لم أستطع أن أتذكر بأنني رأيته سابقاً.أخذته من تحت ذراعيه و ساعدته كي يصبح في وضعية الجلوس. للحظة جلس صامتاً بين ذراعي ، برأس متدلي و عينين جامدتين، ولكن لم تمض إلا لحظة حتى أطلق صرخة خارقة رهيبة. أفلت نفسه من بين ذراعيّ ثم سقط أرضاً جثةً هامدة.
نظرت من حولي و لاحظت مندهشاً بأنني لست وحيداً , كان هناك أناس كثيرون من حولي و يضحكون ساخرين مني.رجلاً بديناً كبيراً في السن بدى ميسورالحال جداً و رافلاً في ثياب العافية ضرب ركبتيه و ضحك حتى إحمرّت و جنتاه من شدة الضحك.
كنت مندهشاً و غاضباً.لم أفهم قط على ماذا يضحكون, عندها و بالصدفة ألقيتُ نظرة على الرجل الميت, المدد على الأرض ثقيلاً هامداً.بعينيه الزجاجيتين و هما تحدقتان في الفراغ.
لقد كان هو أنا ..نعم..أنا..أنا.


يلمار سودربيرغ
1986-1941
أديب و صحفي سويدي
من أشهر أعماله
الأوهام 895 1 رواية
شباب مارتين بريك   رواية قصيرة 1901
قصص قصيرة جداً 1898
دكتور غلاس 1905 رواية
اللعبة الخطيرة 1912 رواية
بالاضافة إلى أعمال مسرحية و قصصية أخرى.
القصة المرسلة هي من مجموعته القصصية "
Historietter 1898
قصص قصيرة جدا

فرمز حسين
كاتب و مترجم سوري
ستوكهولم
2019-04-22

  

الأحد، 5 مايو 2019

حلم الخلود


حلم الخلود


قصة:يلمار سودربيرغ
ترجمة: فرمز حسين
عندما كنت يافعاً  لطالما اعتقدت من كل قلبي بأن روحي لن تموت أبداً. و كنت أرى ذلك بمثابة هبة مقدسة غالية، و كنت سعيداً و فخوراً بذلك.
دائماً كنت أقول في نفسي:
إن الحياة التي أعيشها هي عبارة عن حلم داكن مربك، و يوماً ما سوف أستيقظ على حلم آخر أقرب إلى الواقع و له معنى أعمق. و من بعد ذلك  سوف أستيقظ على الحلم الثالث ثم الرابع، و مع كل حلم جديد أقترب إلى الحقيقة أكثر من الحلم الذي قبله. هذا الاقتراب من الحقيقة يعطي معنى الحياة و هو معنى  عميق و يحتاج لعبقرية الادراك.
 شدة فرحي بمعرفة أنّ لي روحاً أبدية وهبتني الإحساس بأنني أملك رصيداً لا يمكن خسارته في اللعب و لا يمكن مصادرته مقابل ديون، فمارست حياةً باذخةً و أسرفتُ مثلما يسرف أمير بما ملكت أيماني  و مالم أمتلك.
 لكن في إحدى الليالي كنت مع بعض أصحابي في صالة كبيرة كانت تلمع بالذهب و الأنوار الكهربائية ومن شقوق الأرض كانت تصعد رائحة العفونة . شابتان يافعتان و ثالثة مسنة ملئت تجاعيد  وجهها بالمساحيق كن ترقصن هناك على المنصة رقصاً مترافقاً مع أوركسترا النبيذ و مظلات الرجال و أصوات الزجاج المتحطم.
اعتبرنا هؤلاء النسوة سكارى و تحدثنا عن خلود الروح.



قال أحد اصحابي و كان يكبرني سناً
إنه لمن الغباء الاعتقاد بأن امتلاكنا لروح خالدة هي سعادة. انظر إلى تلك المرأة المسنة التي ترقص هناك و رأسها و يداها ترتجفان حين تقف ساكنة لحظة واحدة، و نكتشف معها بأنها رديئة لانفع فيها، أو سوف تسوء حالتها أكثر يوماً بعد الآخر. كم يكون من السخافة أن نظن بأن لها روح خالد.
 هذ الشي ينطبق تماماً عليك و عليّ و علينا جميعاً . كم هي من مزحة سيئة أن الخلود موهوب لنا.
أجبته:
الذي لا أعجبه في حديثك ليس كونك تنكر خلود الروح بل كونك تجد المتعة في نكران ذلك. الناس مثل الأطفال الذين يلعبون في حديقة لها أسوار عالية. مرة بعد الأخرى تُفتَح ّبوابة السور و يختفي بعدها أحد الأطفال من خلفها. و يقولون لقد تم أخذه إلى حديقة أخرى أكبر و أجمل من هذه: عندها يقفون للحظة و يستمعون صامتين و بعدها يعودون للعب بين الأزهار .افترض أن أحد الأطفال كان أكثر فضولاً من الآخرين و صعد على السور ليرى أين يختفي رفاقه، و عندما يعود يخبر الآخرين بما شاهد ، خارج البوابة: هناك غول عملاق يأكل الأطفال الذين يتم أخذهم إلى الخارج و الدور آت عليهم جميعاً! أنت ذلك الصبي مارتين و أنا أرى في ذلك  سخافة لا توصف أن تقول ما تعتقد بأنك رأيت ليس فقط بدون أن تشكك في ذلك بل فخوراً و سعيداً بأنك تعرف أكثر من الآخرين.
الفتاة الصغرى من بين الثلاث فتيات جميلة جداً، أجاب مارتين.
إنه لأمر فظيع أن نفنى جميعاً و أنه لأمر فظيع أيضاً  ألايمكن إفناؤنا جميعاً، قال شخص آخر من أصدقائي.
مارتين استمر مع بنات أفكاره:
نعم قال يجب التمكن من إيجاد حل وسط. عد إلى تصميم بلدانك و اخرج و ابحث عن التناسب بين الزمن و الخلود. و من يتمكن من إيجاد ذلك يستطيع تأسيس دين جديد، لأنه سيكون بحوزته أفضل طُعم ملكه الصيادين على مرّ الدهر.
انتهت الأوركسترا بقرقعة. اللون الذهبي في الصالة بدى أقل لمعاناً من خلال دخان السجائر و من شقوق الأرض أصبحت رائحة العفونة تصعد أكثر فأكثر.
انفصلنا و تفرقنا كل إلى وجهته .تسكعت طويلاً في الشوارع . دخلت شوارع لم أعرفها من قبل و لم أرها أبداً بعد ذلك، شوارع غريبة مهجورة خالية  بدا أن أبواب بيوتها تتفتح لتؤمن لي المكان كيفما اتجهت، و من بعد ذلك تغلق من خلفي .لم أكن أعرف مكان تواجدي،  حتى وجدت نفسي فجأة أمام باب منزلي . كان مفتوحاً على مصراعيه. دخلت من البوابة و من ثم صعدت الدرج . وقفت عند إحدى نوافذ الدرج و نظرت إلى القمر لم أكن قد لاحظت من قبل بأن القمر كان مضيئاً هذه الليلة.
و لكنني لم أر أبداً لا من ذي قبل و لا الآن القمر على هذا الشكل. لا يمكن القول بأنه مضيء لقد كان رمادي اللون ، شاحباً و كبيراً لدرجة غير طبيعية. و قفت طويلاً و أنا أحدق في هذا القمر على الرغم من أنني كنت مرهقاً جداً و متشوقاً جداً لأن أخلد للنوم.
كنت أسكن الطابق الثالث. و كنت قد صعدت طابقين شكرت الإله لأن طابقاً واحداً فقط باق.
و حين صعدت القسم المتبقي من الدرج تذكرت بأن الشرفة ليست معتمة كما تكون عادة و لكنها كانت مضيئة إضاءة خفيفة  مثل بقية الشرفات، هناك كان ضوء القمر يدخل من خلال نوافذ الدرج . و لكن هناك فقط ثلاثة أدراج في هذا البناء ماعدا الطابق العلوي و لذلك كانت الشرفة العليا دائماً مظلمة. باب العلية مفتوح قلت مناجياً نفسي . الضوء آت من نافذة درجها. هذا أمر لايمكن تبريره من قبل الخدم ترك باب الطابق العلوي مفتوحاً. يستطيع اللصوص أن يصعدوا إلى الطابق العلوي .
و لكن هناك لايوجد باب لمدخل العلية هناك كان درجاً عادياً مثلها مثل الأخريات .
انا أخطأت في الحساب كان هناك درج طابق آخر باق .
و لكن حين وصلت هذا الدرج المتبقي أيضا و أصبحت أمام الشرفة ، كان عليّ السيطرة على نفسي و كي لا أصرخ  عالياً. لأن هذه الشرفة أيضاً كانت مضاءة، و هناك أيضاً لم يكن أي باب مفتوح  و لكن  يبدوهناك ثمة درج جديد متجه  للأعلى كان موجوداً مثلما حدث للتو .و من نافذة الدرج يدخل  ضوء القمر رمادياً شاحباً لابريق فيه و كبيراً لدرجة غير طبيعية. سقطت على الدرج . لم أتمكن  من التفكير أكثر  و تعثرت على درج آخر  و آخر و آخر و أيضاً درجاً آخر ، توقفت عن العد.
أردت الصراخ ، أريد أن أوقظ هذا البناء المسحور و أرى الناس من حولي ، ولكن انعقد لساني.
فجأة خطر لي فكرة أن أقرأ أسماء سكان البناء من لوحة أسمائهم على كل باب. من هم هؤلاء البشر الذين يستطيعون أن يسكنوا برج بابل هذه؟
ضوء القمر كان ضعيفاً جداً ، أشعلت عود ثقاب و اقتربت من لوحة الأسماء النحاسية .
قرأت اسم أحد أصدقائي المتوفين، عندها انفك العقد من لساني و صرخت :
النجدة ! النجدة ! النجدة !
تلك الصرخة أنقذتني لأنها أوقظتني من الحلم الفظيع بالخلود.
يلمار سودربيرغ
1986-1941
كاتب سويدي
من أشهر أعماله
الأوهام 895 1 رواية
شباب مارتين بريك   رواية قصيرة 1901
قصص قصيرة جداً 1898
دكتور غلاس 1905 رواية
اللعبة الخطيرة 1912 رواية
بالاضافة إلى أعمال مسرحية و قصصية أخرى.
القصة المرسلة هي من مجموعته القصصية "
Historietter 1898
قصص قصيرة جدا

فرمز حسين
كاتب و مترجم سوري
ستوكهولم
2019-05-04