الأربعاء، 20 مايو 2020

كاك كوفيد


كاك كوفيد

قصة: فرمز حسين

فجأة أحس بأن ذلك الزحام الشديد الذي كان قد تلاشى تدريجياً عن شوارع المدينة و أسواقها قد استوطن رأسه، كان دوماً يرى نفسه فوق الأحداث، يتأملها بترفع من الأعلى،  فما يحدث للناس من مصائب وأهوال، و ما يصيبهم من أحزان و شجون و ما يخبئ لهم القدر وما ترسله لهم الطبيعة من أوبئة و جوائح  هو نفسه لم يكن يشعر في يوم من الأيام بأنه معنيٌ بكل ذلك، فهو راصد لكل مايحدث  و كل ماقد يحدث. عادة كان يردد في قرارة نفسه أنا جالس هنا في صالة العرض  متفرج فحسب، متناسياً أن في مسرح الحياة خشبة عرض الكل لاعب فيه، و لكل  دوره شاء أم أبى. الفرق بينها و بين خشبات المسارح الكلاسيكية المتعارف عليها هو  أمر واحد، لكنه أمر هام و خطير ألا وهو  تداخل خشبة العرض هذه مع  صالة المشاهدين، و لذلك يتوهم جميع اللاعبين بأنهم من الجمهور المتفرج في الصالة الغائبة.
لكن ذلك الشعور المفاجئ بالسخونة والمرض الذي باغته دون مقدمات أيقظه من نشوته و جعله يتمنى الخروج من ملابسه، و  تلك الوخزة المؤلمة في حلقه جعلته يبتلع ماتبقى من أقصوصة تفوقه ويكبح خياله من المغالاة في تميزه. هكذا انقلب تفاؤله المضيء إلى تشاؤم مظلم غير مسبوق بدأ ينخر في داخله و يجعله على حافة السقوط في هاوية اليأس . تسمّرَ في مكانه لحظةً دون حراكْ كمن يريد أن يتذكر شيئاً ما قد نسيه،لكنه سرعان ما بدأ يلتفت حول نفسه من جديد و في جميع الاتجاهات  كأنه يريد الاختباء من عفريت يطادره ، بقي مستمراً في التفاتاته السريعة  و شعور بالذعر بدأ ينمو سريعاً في داخله.لعن الساعة التي قرر فيها أن يستمر  في العمل و يلتقي مع الآخرين ولعن السلطات التي أوصت بالتباعد الإجتماعي فقط و لم تتخذ اجراءات أكثر حزماً يقي الناس شر هذا الهجوم . ثم لعن من تسبب في نشأة هذا الوباء و من ساعد على انتشاره و جموحه و لعن البشر و علاقاتهم السيئة بالحيوانات و البيئة  ولعن الصين و عاداتهم الغذائية  و لعن الولايات المتحدة الأمريكية  و روسيا و لعن العالم و القيادات السياسية التي لاتفكر إلا في توسيع سلطاتها و نفوذها  غير آبهة بحياة الناس بل إنها تستغل حتى الضحايا من الأموات كاأرقام مجردة لصالح حملاتها الانتخابية. لعن  الاعلام الرسمي و غير الرسمي الذي لا يكف عن نشر أخبار الموت في كل مكان بمبالغات و مغالطات كبيرة . قرر أن يعزل نفسه عن العالم الخارجي ليس فقط عضوياً بل حتى افتراضياً فأغلق التلفاز و المذياع القديم و الهاتف المنزلي و الجوال، المحمول و الثابت. لملم شتات أفكاره مصعوقاً من إحساس شبه أكيد بأنه أصبح برفقة زائر غير  مرئي و غير مرغوب فيه و سار بتثاقل دون أن يلقي انتباهاً لكل ما حوله. ثمة شيئ وحيد يدور في رأسه بعد اكتشافه المخيف و هو أن عليه أن  يتفرغ  كلياً لضيفه الرهيب هذا الذي أتى من غير ميعاد. شيئاً فشيئاً بدأ يحسّ بأنه على صواب و أنه على  وشك أن يرى ملامح  زائره الغريب و المعروف معاً. بدأ يحسّ بضخامة يديه، إنه مارد عملاق  تباً لكل هؤلاء الباحثين و العلماء الذين يقولون بأن المدعو كوفيد التاسع عشر مجرد جرثوم ضئيل لدرجة أنه لا يُرى بالعين المجردة. ها أنذا أحس بأصابع ثقيلة تستند على مؤخرة عنقي، أنا متأكدٌ من أنه لا يبذل مجهوداً  يذكر لمضايقتي و كأنه يريدني أن أكون متأكداً من  أنه فعلاً قد بدأ بمرافقتي و أنه يبعد عني الاحساس بالوحدة و أنا في طريقي إلى حجري الصحي.
أنا و هو لاثالث لنا.
كاك كوفيد عزيزي لقد أنهكني التعب و أريد  أن أخلد إلى النوم قليلاً، لكن لايطيب لي خاطر و لن يغمض لي جفن و أنت تطوقني، هكذا رغم كل هذا الارهاق الذي أعانيه.
كوفيد : حسناً  سأعمل بأصلي و ليس بأصلكم و أتركك ترتاح بعض الشيئ.
سباس كاك كوفيد.
كاك كوفيد انظر إلى طاولة المطبخ انها مليئة بكل ما لذّ و طاب خذ راحتك و لكن رجاءً دعني أرتاح هذه الليلة أيضاً و أعدني بأن تبقى حيث أنت و بأنك لن تهبط و تقترب مني قيد أنملة أخرى حتى الصباح.
كوفيد: امممم..... فكرّ مليّاً ثم أردف قائلاً ..... طيب.....اعمل خير و ارم بالبحر.
  انه أرحم من الكثير من جلادي العصر، همس معترفاً في قرارة نفسه هاهو ذا يمنحني الفرصة في كل ليلة أحس فيها بالارهاق الشديد  لكي أتمكن من الالتفات إلى الماضي فأستعيد شريط أفكاري، و أتذكر أفعالاً خيّرة كثيرة قمت بها، فأحس بغمرة فرح خفيفة وخدر منعش هادئ يسري في عروقي، فأتنشق هواء صافياً بارتياح كبير. بعد ذلك أتذكر شريطاً طويلاً من الذكريات و أعمالأً خاطئة كثيرة أيضاً قمت بها فيسيطر علي شعور كبير بالوهن و التعب و أحس بثقل مضني  يضغط على كافة الأوردة والشرايين  و يكاد يغيبني عن الوعي و يجعلني أحس بأنني على وشك الهلاك لامحالة.
كاك كوفيد عزيزي هلا أمهلتني بعض الوقت  رجاءً هناك ثمة أمور عالقة لم أنجزها بعد، للأسف فأنا من النوع الذي يؤجل عمل اليوم إلى الغد، و هناك تراكمات شتى، و هذه المرة سوف أضع خريطة طريق مدعومة بخطة زمنية محدودة و أنا بنفسي سوف أرسل لك دعوة لكي تأتيني و لن أماطل هذه المرة مثل مافعلت سابقاً مع أبناء عمومتك.

يوماً بعد الآخر  بدأ يحس  بالإلفة مع عزلته عن العالم الخارجي و بخواء كل ما كان فيه سابقاً و على عكس ماكان يخشاه من ذي قبل فقد بدأ أيضاً يحس بالارتقاء الى الشعور بعظمة الموت.
 يا إلهي حين تعود بي الأفكار قليلاً إلى الوراء أشعر و كأن متلازمة ستوكهولم بدأت تركبني و تغير من نظرتي إلى هذا الضيف الثقيل قال مناجياً نفسه. حين يحضر الموت كل شيئ آخر يصبح تافهاً،  الاهتمامات، الناس، النجاحات و الفشل, المال و الميراث، عظيم الموت و عظماء هم من رحلوا  و صغارٌ  هم  الباقون و من سيتر كهم من خلفه هكذا كانت سوية الأفكار التي بدأت تسكن مخيلته.
في الصباح استقيظ باكراً جداً متشوقاً لصحبة كوفيد، بحث عنه في جميع أرجاء البيت دون أن يعثر له على أثر، هناك في عتبة الدار كان قد ترك له رسالة قبل أن يرحل:
 أنتم البشر متوحشون و لا تستحقون الرحمة و لا حتى الشفقة. أنتم  لا تكتفون بأن تأكلوا  كل ما يتحرك على الأرض و تعيثون فيه فساداً و تحرقون الأخضر و اليابس، بل انكم تنهشون حتى في أجساد بعضكم البعض ! تباً لكم من مخلوق عجيب!  كوفيد التاسع عشر.

فرمز حسين
كاتب و مترجم سوري
ستوكهولم
2020-05-15