بكركي
قصة : فرمز حسين
على مفترق الطريق الواقع غرب المدينة وقف
بكركي ملتحفا بمعطف بال, ثخين, مسندا نصف ظهره على الباب الحديدي المطليّ بالأحمر
والأسود والنصف الآخر على الجدار الأيمن للحانة المغلقة الذي يشكل الركن الشرقي
للبناء وهو يضرب كفا بكف ويفرك يديه بحركة هستيرية ,علّه يحس ببعض الدفء ينفذ الى
جسده المتعب , قدماه بالكاد تصمدان تحت
ثقل جذعه , يترنحان في حركات ارتعاشية متقطعة في تلك الأمسية الرطبة من أواخر شباط
فيما عينيه الغائرتين غارقتين بدموع ثقيلة
تتجه حينا صوب المساحات المجاورة بنظرات هلعة والى الفضاء الرحب بتوجس حينا آخر
وكأن مخلوقات خرافية بأذرع طويلة سوف تظهر من العدم وتقطعه إربا.
كل شيء بدا داكنا شاحبا , رجال بملامح متجهمة
غير مألوفة .. أعينهم تقدح شررا .. أفواههم تقذع شنيع الكلام .. يرطنون بلهجات
غريبة , نساء متشحات بالسواد , أطفال
بأسمال بالية تستر بالكاد أجسادهم الهزيلة .. يسيرون في شوراع وأزقة مهملة
تفوح منها رائحة نفايات محترقة. على أسقف الأبنية تقف طيورا سوداء فاحمه شبيهة
بالغربان ذو مناقير بيضاء ملوثة بصبغة حمراء قاتمة, تنعق في صوت واحد ثم تصمت معا!
يا
إلهي !
لقد
تغيرت الدنيا في هذه المدينة سواد في سواد !
بتّ
أرى نفسي غريبا فيها على الرغم من تسكعي المستديم في أزقتها وشوارعها منذ نعومة
أظافري.
في قرارة نفسه كان يحاول الابتعاد عن التفكير
بما حدث في الأمس القريب.. لكن قدرته على التماسك كانت تخذله في كل مرة وينهار
خائر القوى , دموع ثقيلة تغرق مرة أخرى عيناه قبل أن تنزل على خديه المليئتين
بالتجاعيد المبكرة لترسما خطان متعرجتان تنحدران عبر وجهه المستطيل المغطى بطبقة
رقيقة من السخام والغبار.
بعد ردح من الزمن مليء بالتسكع
في الشوارع , النوم على الأرصفة وفي مداخل الأبنية , أفلح مؤخرا في الركون إلى ذلك
الدار الطيني المهجور ليلا والتسلل منه الى الخارج قبل بزوغ فجر كل يوم , شيئا
فشيئا تحول ذلك الدار لديه الى بيت اعتاد لمس جدرانه وآلف رائحة تربتها وهو
يفترشها في المساء , أحسّ به كوطن يضمه لدرجة أنه بدأ يفتقده كلّما أحس بالتعب وحاجة الخلود الى الراحة.
كانت العتمة مطبقة تماما حين سمع أصوات حفنة
من الرجال يدخلون البيت المهجور, تخيّل للوهلة الأولى بأنه سمع صرخة ..
ثم تأوهات...
فأنين.
انهم
يبرحون أحدهم ضربا عنيفا تمتم لنفسه!
مدّ يديه بصورة عفوية ليتحسس تحويشة العمر في
جيب سترته السرية تحت إبطه...
أطبق
عليها بكلتا يديه المرتجفتين , فيما كتم أنفاسه خوفا من أن ينتبه أحدهم الى وجوده.
الصوت انقطع برهة طويلة من الزمن .. لدرجة أنه
اعتقد بأن كل ما سمع كان محض خيال... لولا أن ضربات قوية متتالية حينا ومتقطعة
أحيانا أخرى, قطعت شكه باليقين.
ألصق جسده بجدار البيت المتهالك وكأنه جزء
منه خوفا من أن يطل أحدهم برأسه ويكتشف وجوده في قلب العتمة.
الصخب تلاشى تدريجيا...
حلّ محلّه صمت مهيب... حتى أنه بدأ يسمع
ضربات قلبه وهي تدق بشدة ولأول مرة في حياته بهذا الدوي المرتفع ..
بدأ يجزّ على أسنانه متسائلا:
هل أنا في كابوس مرعب ؟
هل صوت الحارس المسلح مجرد وهم ؟ لأنني ربما اعتدت سماعه كل يوم وهو ينهر
الأهالي.
شيئا فشيئا أصبح الظلام يتلاشى وأضواء خفيفة
بدأت تتسرب الى الداخل , تردد في البداية على الخروج لكنه استجمع قواه المشتتة
ليوثب من مكانه وقد تملّكه ذعر غير مسبوق .. سار بخطوات متعثرة باتجاه الحجرة
المجاورة مرورا بمصدر تلك الأصوات التي كانت تأتي من بهو الدار المهجور ...
هناك
في البهو تسمّر في أرضه مصعوقا من هول المنظر....
الدماء كانت قد صبغت الجدار الطيني الجنوبي
.....
رائحة الموت كانت آخذة بالانتشار , لثوان معدودة لبث دون حراك قبل أن يهرع الى
الخارج وهو يحاول أن يحتفظ بأمعائه داخل جوفه.
2014-04-23
فرمز
حسين
ستوكهولم
Farmaz_hussein@hotmail.com
Stockholm-sham.blogspot.com
Twitter@farmazhussein
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق