الرجوع من الآخرة
قصة :
فرمز حسين
أحسّ
بثقل عظيم يعيق جسده المنهك عن الحركة حاول جاهدا لملمة أطرافه التي أحس بها
مبعثرة, حين صاحت الديكة ايذانا ببزوغ فجر نهار جديد وأفول ليلة كادت أن تكون
أبدية.. تريث لحظة لالتقاط أنفاسه و هو ينظر الى سقف الغرفة حيث تخيل اليه أنّ
الرطوبة قد أزالت معظم لون الطلاء الأبيض عنه لتحل محله بقع كثيرة متفاوتة الحجم
شبيهة بخرائط جغرافية لبلدان يجهلها.
من شدة
الإعياء عاد وأغمض عينيه..
سرعان ما بدا له ذلك الشخص المتشح بالسواد..
قادما من العدم..
تزامن
قدومه مع هجوم حيوان خرافي ذو رقبة طويلة وعينين بلوريتين .. يسير على عجلات
حديدية مسننة ,يرمي بشظايا نارية وينفث دخانا أسودا خانقا بعشوائية في كل
الجهات. نظر كل منهما الى الآخر نظرات توحي بأنهما على وفاق, بدى ذلك واضحا حين
اقترب المتشح بالملابس السوداء من الجمع المحتشد فيما ابتعد الحيوان الخرافي
جنوبا.
تذكر
كيف دبّ الذعر في نفوس الجميع ..
تذكر كم كان اللعين في عجالة من أمره.
حرارة
الطقس كانت قد بدأت حينها بالارتفاع رويدا و ظلال صفائح التوتياء التي تغطي
شرفة البناء الهرم كانت قد تلاشت بصمت ,مخّلفة حرارة لاذعة فيما جمع المنتظرين
كانوا واقفين أمام الفرن القديم والذي أصبح يعمل يومان فقط في الأسبوع نظرا لصعوبة
الحصول على المواد والمحروقات. كان جلّ ما يفكرون به في تلك اللحظة المشئومة هو
الحصول على بضع أرغفة من الخبز.
صخب قوي شبيه بصوت رحى طاحونة تدور.. و تدور .. دون توقف كان داخل رأسه.
دوران
الرحى اشتد حين بدأ شريط التفاصيل يسير أمام عينيه ببطء شديد..
تذكر أنهم سقطوا على الأرض معا بعد صعودهم بضع
أمتار الى السماء ..
تذكر أنهم كانوا بعدئذ في طابور واحد في ذلك اليوم الذي كان مزيجا من
الليل والنهار.... حيث كان الناس أسرابا ....تناهى الى سمعه أصوات البعض منهم وهم يقولون:
إنّه ..
إنّه
..
يوم الحشر..
كانوا يسيرون حينا ويقفون حينا آخر..
تذكر أيضا أن الأخيار و الأشرار كانوا مختلطين ..لم
يكن قد تم فرزهم عن بعض .
هناك
في الطريق المزدحم كانوا
يتدافعون آملين رأفة الرحمن ورفقه
وبالتالي عبورهم عتبة السعد الى جنات النعيم..
الجميع
باستثناء ذلك الشخص المتشح بالسواد ..
لم يكن
يتأمل..
لقد
كان الرجل على يقين تام بأنه من أهل الجنة ..
بكل تأكيد ..
لقد نفذ
المهمة الموكلة إليه لإيمانه الكامل بأن ثوابه هو دخول الجنة .
كان واثقا وهو يحاول إزاحة كل من في طريقه بنزق
وعصبية جنونية..
تلك الثقة سرعان ما تبددت ..حين غلبه الإعياء وتوقف مجبرا لينظر في وجوه من حوله ..
الجميع
كانوا قد توقفوا عن السير وهم بدورهم ينظرون اليه بعيون تقدح شررا ..
أحاط
به القوم من جميع الجهات ..
أمسكوا بتلابيبه معا..
رفعوه عاليا الى السماء ..
كان
جميع الواقفين أمام المخبز قد تحولوا الى عمالقة ..بأذرع قوية ,طويلة تصل الى
الغيوم ..
طالب
بعضهم بتقطيع أوصاله ورميها الى تلك الحيوانات المفترسة التي كانت تحرس أسراب
العابرين ..
آخرون
رفضوا ذلك ..
حين
اشتدّ الخلاف بينهم , اغتنم المتشح
بالسواد الفرصة وهرب على ظهر بعير بثلاثة قوائم.
عاد
وفتح عينيه مرة أخرى بحذر , نظر الى سقف الغرفة نظرة عميقة, ثم إلى
الجدران,الأبواب وإلى الفضاء من خلال النافذة الخشبية النصف مفتوحة ...
سيطر عليه شعور حزين..
أحسّ بالوحدة
..
الضعف..
سكت
لحظة قبل أن يتمتم .. .بصوت خافت في البداية ..ثم.. مالبث أن علا صوته.. ليتحول
تدريجيا الى صراخ قوي ملأ أرجاء المكان:
انها
ليست خرائط !..
ليست
خرائط !
انني
أرى تلك البقع في كل مكان ..
انها
بقع الدم التي امتزجت مع أرغفة خبز شبه محترقة .
نعم ...
لقد
تذكر كل ما حدث ..... انه ليس في حلم ...
إّنّه..
إنّه....
عائد من الآخرة.
عندما
تيقن من كل ذلك...... بقي صامتا هنيهة قبل أن يدفن رأسه بين ركبتيه ويجهش بعدها في
بكاء طويل.
2014-07-17
فرمز حسين
ستوكهولم
Stockholm-sham.blogspot.com
Twitter@farmazhussein
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق