مقدمة مجموعتي القصصية التي صدرت منذ أيام عن دار أوراق للنشر و التوزيع في مصر كتبها الأديب القدير الصديق نيروزمالك مشكوراً وقد تناول في مقدمته معظم نصوص المجموعة و كانت كالآتي:
بعد أن تنتهي من قراءة" الهبوط الآمن" ، وهي المجموعة الأولى للكاتب فرمز حسين تجد نفسك امام نصوص قصصية رمزية بامتياز. رغم تفاوت بعض نصوصها احياناً عن بعضها الاخرى، إلا انها في المجمل لا تخرج عن دائرة هذا الامتياز. تتوزع نصوصها على جملة من الموضوعات لحيوات ابطاله في الزمان والمكان اللذين عاشا فيه. هذا إلى جانب ان الكاتب يحاول دائماً ان يكون برفقة ابطاله يؤرخ أحياناً لحياتهم المعاشية وأخرى لحالاتهم النفسية. تجده يتجول في القرى التي ترسم الواقع الاجتماعي لتلك البئية القروية الفقيرة، او المدنية البائسة مؤكداً على ان، ليس بالضرورة ان يكون ابطاله فقراء الجيب فقط، فهم ايضاً فقراء المعرفة والقيم والانتماء. في قصة( احداث الفصل الاخير)، حيث تجده يرسم صورة عن صراع اجتماعي، قبائلي، وعشائري، وطائفي.. فالكل يساهم فيه ليثأر، على مايبدو، من ثأر قديم منسي، فيذهب الجميع في طحن بعضهم بعضاً من دون رحمة، ولا يقف الكاتب عند هذه الصورة البدائية عن المجتمع إنما يتعداها مع ابطاله إلى تلك المصانع التي يتخرج منها الأبطال.. ففي حديثه المبطّن في( مصنع الرجال) عن هذه المصانع المبهرجة للبطولة الزائفة التي لا يتخرج منها على أيدي أصحابها سوى رجال أذلاء مهانين يقفون أمام الكاتب وهم يستغربون منه عندما يحدثهم عن قيم" الوطن" و" الأرض" والعرض"، فتراهم لا يعرفون معناها، أو ربما ماتت لديهم منذ زمن بعيد، ففي تلك المصانع التي تصنعهم اصحابها كما يريدون هم، لا كما يريد الوطن والارض والعرض.. فيلتفت ابطاله إليه، ثم مايلبثوا ان ينفجروا بالضحك حتى يغشى عليهم. ويستمر الكاتب التجول مع أبطاله، يرى سلوكهم ويراقب أفعالهم وأعمالهم. ففي(القطيع ) هاهم الرعاة يسوقون الذئاب إلى قطعانهم عندما تدعي المصلحة إلى ذلك، والمصلحة هنا هي مصالح هؤلاء الرعاة طبعاً، فيصبح الصراع كابوساً، فتستغرب كقاريء، وانت تتجول في ارجائه كأنه مدينة بشوارع وحارات وسماء، تستغرب لانك لا تصادف فيها سوى القتلة يسرحون ويمرحون فيها. ولعل نص( العتال) الذي يرسم لنا الكاتب اوضاعه المعيشية الصعبة، والعذاب والمعاناة التي يعاني منها، وهو يتحايل على كسب معاشه اليومي، وانسداد الافق امامه في عيش كريم، من دون اذلال، يرافق الكاتب ويوافقه عندما يدفعه باتجاه الحلم ليغرق فيه ويعيش بالطريقة التي يريد ، فتراه يخلع عن نفسه ثيابه البالية، ويرحل عن بيته المتداعي، بعد ان يرمي وراءه جوعه وفقره وعذابه ليعيش عيشة الرجل الغني فتراه يرتدي اجمل الثياب، ويسكن احلى القصور، ويولم اعظم الولائم.. وهكذا يأخذ الكاتب بيد عتاله ويدفعه إلى حياة افتراضية لا يمكن له العيش فيها إلا في الخيال، فتشعر بالالم لمصير هذا العتال الذي، على مايبدو يستمريء اللعبة، فيتابع حلمه من دون علم الكاتب، ليكون هذه المرة ملكاً او امبرطوراً! ومثل هذا الامر يتكرر ايضاً في نصه( حلم) ولكن، لهذه الحالات الحلمية، يقف الكاتب في بعض نصوصه موقفاً مغايراً تماماً، ففي نصه( يأس) تظهر هذه الحالة بأجلى صورها عندما يعترف بطل النص بعجزه وعدم رغبته في الحياة، ثم يذهب الكاتب بنا إلى دهاليز اخرى، واماكن تجول في رؤوس بعض ابطاله فيجلسون هنا وهنالك على مدرجات الحياة ينتظرون حياة افضل، قد تأتيهم، بعد انتظار طويل او قصير لا يهم، لتلوّح لهم بيدها كفتاة جميلة، مشيرة لهم، انّ تعالوا.. ولكن الكاتب مايلبث ان يؤكد لهم، على ان الانتظار سيصبح امراً عبثياً لا طائل منه ولا فائدة كانتظار" غودو"، لان ذلك سيؤدي به إلى اليأس وفقدان الامل، كما في نص( تجاعيد)، رغم هذا، يحاول الكاتب ان يخفف عن ابطاله بعض هذا اليأس، ويزرع فيهم شيئاً من الامل، إلا انه يجد منهم الصد، لا بل يذهبون إلى ابعد من هذا، يذهبون إلى اليأس حتى من رحمة الله تعالى في ملكوته، كما في نصه( الاعتراف). والكاتب لا ينسى ما يجري في بلده سوريا، واحياناً في مدينته التي لا اسم لها، لان ما يجري في مدينته يجري في كل المدن السورية الصغيرة والكبيرة، ترسم برهافة احوال الناس ومعاناتهم على ايدي قوى ظالمة تريد ان تحكمهم بالحديد والنار، وبكل الاساليب الوحشية وغير الانسانية فتدفع السوريين بفعل الحرب الجارية في بلدهم بكل اطيافه القومية والدينية والمذهبية على ايدي حكامهم، وايدي قوى ظلامية خرجت من اغوار ظلمات التاريخ لتفرض عليه حياة لا يقبل ان يعيشها سوى اعداء الحياة.. وما يميز هذه النصوص التي رسم فيها معاناة الناس من قبيل هاتين القوتين بأنها لا تشعر القاريء بمباشرتها، ومثل هذه المواضيع لابد لها شيء من المباشرة ليعرف القاريء انه امام احداث تاريخية يعيشها ابطال القصص. مازال الكاتب يرافق ابطاله في مجمل قصص لجوء السوريين الذين يعيشون على الورق بعد ان عاشوا الحياة في قراهم ومدنهم، بعضهم كان معذباً يعاني من ضنك العيش والعزلة واليأس، وضياع روحي ونفسي، يعيش حياة لم يرَ ما يسر فيها إلا ساعة ولادته التي مع مرور الايام تصبح عبئاً عليه، حتى ان بعضهم، عندما يتذكرون انهم على قيد الحياة يضحكون من انفسهم ساخرين منها فيلتفتون إلى الكاتب ويسألونه: أحقاً نحن على قيد الحياة؟ ثم يوضحون له: إن كان الامر هكذا فلماذا يلاحقنا هذا الموت رغم الرضا عن حياتنا البائسة. انظر، يقولون للكاتب، هاهو الموت يلاحقنا في بيوتنا، وشوارع احيائنا التي نعيش فيها، وفي اماكن اعمالنا، فلم يعد الموت يفرق بين كبير وصغير بعد ان اصبح اعمى، اعمته هذه الحرب الدائرة منذ سنوات. يرفع الكاتب يديه إلى الاعلى مستسلماً، كأنه يسألهم، ماذا بامكانه ان يفعل لهم؟ لا شيء. يقولون له. ثم يضيفون، ألا تقدر ان تتكلم عنّا، تأمرنا او تجبرنا على الهرب، على الخروج من مدننا وقرانا ومن سوريا كلها، نازحين ولاجئين.. اكتب عنا، اننا نزحنا بالآلاف.. تحدث عما عانيناه في اثناء لجوئنا ونزوحنا، تحدث عن آلامنا وعذابنا ونحن نطوي ارضاً وراء اخرى، نحمل عجزنا وعزلتنا. تحدث عنا ما ان نصل إلى بلد له حدود مع بلدنا، حتى نفكر بالعودة مع التقاء كل نظرة لنا بنظرات اهالي البلد الذي عبرنا حدوده قبل ان نتابع رحلتنا إلى اين؟ لانعرف. لانعرف القدر اين سيرمينا، في ايّ بلد من العالم سيحط بنا. اتمنى، يقولون للكاتب، ان لاتخجل منا، ان لا تقول كيف لي ان اتحدث عن اهلي وناسي وشعبي بصورة ترسمهم برفقة الذل والخوف والخنوع و.. نعرف ما نحن عليه ولكن ليس ذنبنا، ولا ذنب اهل البلد الذي لجأنا إليه. ثم يقولون: لم يعد امرنا يهمنا نحن، إنما يهمنا امر اولادنا، حاول ان ترسم لهم ان حياة متلألئة تنتظرهم في البلدان التي لجأنا إليها. ارفع عن وجوههم القلق والخوف الذي على وجوهنا. حاول ان تقول لهم، ان ما لاقيناه في البحر والبر هو امر عادي لا يلبث لهم ان ينسونه خلال ايام من وصولهم إلى بلد اللجوء. سينسون عذاب الانتظار، والخوف والوحدة والايام القاسية التي تمر عليهم وهم ينتظرون ان يصلهم قرار لمّ الشمل، او الضيافة، او.. وفي قصته الاخيرة( الارقام المهاجرة) يحاول الكاتب ان يسلّي نفسه، او يجعل من نفسه سخرية لابطاله، فهو لا يفكر بمأساتهم، ولا يتذكر معاناتهم إنما يحاول ان يعاقب نفسه، عندما يذهب في عدّ ابناء قريته الذين هربوا من الموت لاجئين ونازحين إلى بلدان العالم، بعد ان تركوا وراءهم بيوتهم وارزاقهم، لا يفكرون سوى بانقاذ انفسهم وحياة اولادهم. ويعدّ، ويعدّ، ثم يسهو عن العدد الذي وصل إليه، فيعيد العدّ، ولكنه، في كل يوم يجد عدد النازحين يزداد ولا يتوقف. وهكذا يمضي ايامه كأنه رجل مسلوب العقل، يتسلى بالعدّ في قتل ايامه الخاوية، واوقاته التي لا معنى لها، كأنه يتساءل: طيب بعد ان تفرغ قريته من سكانها، ماذا سيفعل عندها؟ اراه، يقوم من مكانه، ويذهب ليقف امام باب كل بيت خاو عن عروشه، يبكي قليلاً، ثم يمضي إلى باب آخر من دون ان يجفف دموعه، كأنه يتساءل: لماذا اجفف دموعي، فالامر لم ينتهِ، مازالت بعض البيوت، رغم قلتها، يمكنك ان ترى فيها بعض اهلها، لم ينزحوا عنها بعد، ولم يلجاؤوا إلى العالم. يقول لنفسه: لن اجفف دموعي إلا في حال واحدة عندما ارى بيوتها خاوية حتى من حيواناتها. هذا ما قاله الكاتب في نصوصه، عبر رمزية شفافة يستطيع القاريء ان يعرف غاياته، وما يريد ان يقوله ويشير إليه، ولن يجد صعوبة في فهم واستيعاب رسالة الكاتب، وما رمى إليه، ورسمه من مأساة وطنه وشعبه. نيروز مالك| حلب
https://www.facebook.com/AwraqLlnshrWaltwzy/photos/a.945625698891714.1073741829.160517144069244/1067762833344666/?type=3&theater
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق