مع انتهاء كل ليلة من تلك الليالي المضطربة الطويلة وسماع آذان الفجر ثم قدوم الصباح و انتشار بواكير أشعة الشمس كانت تنتابني على الدوام رغبة جامحة بأن أغط في نوم عميقٍ خالياً من الأحلامِ و الكوابيسٍ معاً , نوماً يعيد إلى جسمي المتكسر بعضاً من قواه المنهارة, لكن تحقيق ذلك بدا أمراً شبه مستحيل ففي بلدتنا أطفالاً يعشقون الحياة , يفيضون نشاطاً و حيوية , لا يعرفون شيئاً اسمه التعب أو الخوف و لا تعرف نفوسهم التشائم على الرغم من ذلك الحصار اللانساني الطويل الخانق , يفيقون عادة في الصباحات الباكرة و يملؤون الدنيا صخباً, أنا شخصياً فكرت و تساءلت كثيراً في أمر هذه الظاهرة و لم أتوصل إلى إجابة مقنعة سوى احتمال أن قوة التحدي تكبر عندهم توازياً مع سلوك الكبار الذين لايأبهون لما آل اليه حالهم و ربما تكون لبطونهم الخاوية دور في كل ذلك , لكن بصورة أو بأخرى كان شغبهم فيه تأكيدٌ على أننا لازلنا على قيد الحياة.
مضت ليالي كثيرة و أنا أعاني قلة النوم و حتى
كلاب البلدة لم تكن تنقطع بدورها عن
النباح . كنت أشعر بأن هناك خطر ما في المحيط القريب من تخومنا و ظننت بأن الكلاب
أيضاً كانت تحس بالخطر نفسه لذلك كانت قلقلة و تنبح دون انقطاع في كل ليلة تبدأ مع
أفول الشمس و حلول الظلام و تستمر حتى بزوغ أولى خيوط الفجر من جديد و يكون التعب
قد نال من الجميع ,حينها يغفو كل في مكانه في نوم خفيف متقطع شبيه بنوم فترة
القيلولة على الرغم من التعب و الإرهاق. أنا أيضاً كنت أشعر في الأوقات المتأخرة
من تلك الليالي الطويلة بأن قواي قد نفذت تماماً
لدرجة أنني لم أكن أتمكن من الانتقال الى الفراش و بالكاد كنت استطيع سحب
الغطاء ليدفىء قدمي الباردتين, أتكورُ على نفسي و أرفعُ ركبتيّ حتى تلامسا جسدي و
أضغطُ الوسادة الصغيرة على عظام صدري و كأن أحداً ما يريد أن يسلبني إياها وحين
أصبحُ على وشكِ أنْ أغرقَ في نوم شبهِ عميق يبدأُ صخب الأطفالِ المعتادْ !
الليلة الماضية دون غيرها كان عواء الكلاب
فيه شي من النحيب الحزين و كأن الكارثة واقعة على البلدة لامحالة , استمر النباح
طويلاً رتيباً دونما انقطاع و في وقت متأخر جداً من تلك الليلة الثقيلة أغمضت عينيّ
بعد أن غلبني النعاس! استقيظت على صوت عنيف لطائرات حربية هدرت في سماء بلدتنا على
ارتفاع منخفض هزّتْ الأرضَ و أسقطتْ كل ما هو قائم و حين ابتعدت خيّم صمتُ مطبقُ
على االمكانْ . لا أعرف بعد ذلك إن كنت قد غفيتُ مرةً أُخرى أَم أُغمي عليّ, كل ما
أعرفه أن هناك فراغ ما... فسحة من الزمن
بين لحظة دويّ تلك المقاتلات و يقظتي الأخيرة ,ظننت بداية بأنني كنت أحلم , و أن
كل ماحدث مجرد تهيؤات!
غريب!!
لماذا الكلاب لم تنبح اذاً؟
قلت مناجياً نفسي, كما أنني لم أسمع صوت إمام
الجامع الرخيم وهو ينادي لصلاة الفجر و من بعدها و لأولِ مرةً منذ زمنٍ بعيد لم
أسمع صيحات الأطفال المرتفعة التي كانت توقظني باكراً كل يوم !
حاولت النهوض لكن ركبتيّ خذلتاني , حاولت الصراخ ليأتي من
يساعدني لكن صرختي لم تكن سوى حشرجة أبت تخرج على الملأ!! بقيت مستلقياً في فراشي و
شيئاً فشيئاً زالت الغشاوة عن عيني وعلى
مسافةٍ ليست ببعيدة ٍمني رأيتُ الأَطفالَ المشاغبين كانوا مستلقين على ظهورهم و أعينهم مفتوحة تحدقُ بنظرةٍ
جامدةٍ لا حياة فيها في اتجاه عرش السماء
فيما آثار زبد أصفر كثيف قد سال من أفواههم و أنوفهم الصغيرة!
كانوا صامتين...... جميعاً !
فرمز حسين
ستوكهولم
2017-04-23
Stockholm-sham.blogspot.com
Twitter.com/FarmazHussein
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق