أيام زمان
ستيغ داغرمان
ترجمة: فرمز حسين
أريد أن أروي لكم حكاية من الزمن الماضي. حكاية تتحدث عن الناس، عن الثلج
و عن" سفرة" . الناس طيبون، الثلج أبيض و السفرة طويلة . إذا كان الناس طيبين جداً: فلا تتذمر لأن ذلك لن يحدث، أبدأ
مرة أخرى . و إذا كانت السفرة طويلة جداً: ابق في المنزل . و إذا كان الثلج يتساقط
بكثافة لدرجة يصعب معها تمييز الحلم من الواقع ، فإن تلك هي غلطة الطقس و ليست
غلطتي.
زمان كان الذئب
ذئباً و الملاك ملاكاً ، زمان كان الظلام ظلاماً
شديداً لدرجة أن الطيور كانت تقع فيه كما تقع في الأفخاخ و النور كان نوراً
قوياً لدرجة أنه كان يجعل الناس يتساقطون أرضاً. عندما كان الملاك يأتيك كان يأتي
من الأمام و العفريت كان يأتيك من الخلف و لم يكن يدعي بأنه قديس بل بأنه إبليس و
أن الليلة مظلمة فما قيمة روحك؟
زمان أراد رجل أن يعبر الجسر ، لكنه لم يعبر الجسر
أبداً. أُلقي به في الماء رأساً على عقب و لم يُعثر يوماً له على أثر. من فعل ذلك؟
ربما الريح، ربما حجرة سقطت عليه، ربما
امرأة عجوز .ثمة حي فعل ذلك، لكن في الماضي كل شي كان حياً. أيام زمان لم يكن هناك
شيء ميت ، لأن الأشياء لم تكن قد ماتت بعد . الناس لم يكونوا يعرفون بأن
الأشياء لا تبوح بما تعرف. لذلك لم يعرفوا
بأن الأشياء صامتة لأنها تريد ذلك. الناس كانوا يعتقدون بأن الأرض هي معنى الخلق .
و لذلك هي معنى الوجود.
حتى المدافع كانت عندها لحظات تحس. أيام زمان كانت
الطلقة لا تخترق رأس المصلين .كان ترتطم دون أن تلحق الأذى بهم: و نحن لا نقول بأن
ذلك هراء ، نقول هكذا كانت المدافع و هكذا كان المصلون ، هكذا كانت الدنيا أيام
زمان.
زمان كان الثلج يتساقط بكثافة لدرجة أن لا سماء تُرى و
لا أرض.وعلى عتبة درج تاجر يقف رجل و بيده سكين.
التاجر لم يكن يتوقع وجود أحد في الخارج في مثل ذلك
الطقس . البوابة كانت مغلقلة ليومين ، كانت بوابة معدنية.
التاجر كان عجوزاً
و مريضاً.كان ممدداً على سرير وفير و هو ينظر إلى أعمدة البيت. في ركن
الدار كانت فتاة جالسة على كرسي و تبكي . على الطاولة يوجد وعاء مليئ بجليد سميك.
لا أريد ، قالت الفتاة .
لم تكن تريد الخروج في الثلج . إنها على وشك الولادة.
لا أرى شيئا ، قالت الفتاة .
إنها لاتستدل على الطريق. كذبت. بأنها لا ترى الطريق إلى
مزرعة صغيرة اسمها "فاليت"
يجب أن تفعلي قال التاجر.
كان يريدها أن
تخرج إلى المزرعة في الغابة برسالة فحواها أن والدة المزارع قد ماتت في منزل
التاجر . صباح يوم الخميس وجدت جثة هامدة من شدة البرد على درج منزل التاجر، و
الآن هو مساء الجمعة . كل الغرف كانت باردة و هي كانت في الغرفة الأكثر برودة .
كان قد أقفل عليها هناك ، والمفتاح كان تحت غطاء سرير التاجر.هذا الرجل الذي عانى
الكثير من العذابات ، كان رحيماً مع الموتى و متسامحاً مع الأحياء.
أزعجه أن أحداً لم يعلم بأن ماريا قد ماتت ، ذلك لم يكن
عدلاً مع الأموات و لا مع الأحياء، الفتاة أجهشت بالبكاء على الكرسي .
خطأ إرسال
الفتاة الحامل إلى الخارج في الثلج . كانت خادمته و كانت بمثابة ابنته.
أعطني النبيذ قال للفتاة.
جرع الكأس كله ، تأثير المشروب سيطر عليه، و نام ربما
حتى توقف الثلج عن الهطول.
الفتاة أطفات النور .كانت واقفة عند قدمي سرير التاجر و
مقعده الهزاز.
لم تجرؤ على الخروج من الغرفة.كانت خائفة من الميتة ،
على الرغم من أن الباب كان مقفلاً عليها . يا إلهي تضرعت في العتمة ، دع أحداً يأتينا
إلى هنا .
الرجل الذي يحمل السكين كان واقفاً أمام البوابة .
الآلهة لم ترسله إلى هناك . لم يرسله أحد إلى هناك . لقد أتى من قرية " جيدر" في مقاطعة
سورملاند و كان يسعى لقتل أحد. الآن وهو قد مشي في الثلج لثمانية عشر يوماً و سبع عشرة ليلة.لكنه حتى الآن لم يعثر على أحد
يستحق أن يقتله. و السكين بدأ يفقد شحذه . يجب أن يكون أحد ما معه الكثير من الفضة
، شخص وحيد و تعيس. يجب أن يكون عجوزاً طاعناً في السن و ليس هناك من يفتقده بعد
موته. و من الأفضل أن يكون إنسانا شريراً.
الثلج يتساقط و
يتمايل مع الريح و الرجل دفع بنفسه ضاغطاً
على البوابة . كانت تنبعث إضاءة من نافذة صغيرة لكنها انطفأت الآن . كان بيتاً
كبيراً و كان فيها بالتأكيد من الفضة الكثير
. كان جائعاً و مكفهراً من البرد و التعب.
كانت هناك قلة من
البيوت خلال فصول الشتاء ، الرجل
الذي يحمل السكين رفع ذراعيه و قبضتيه و
بدأ يرعد باتجاه المدخل . كان قوياً . بدا و كأنه يضرب مطرقتين ببعض، و أنه لمن
الغريب إن لم يكن ذلك الصخب مسموعاً.
التاجر كان جالساً في السرير و الخادمة واقفة في الظلام
تبكي.
أشعلي الفانوس قال لها . هناك أناس عند البوابة.
المفتاح سقط من غطاء السرير . الخادمة خففت من بكائها ،
أشعلت المصباح ، و الظلال خرجت من أركان المنزل
تنظر بتثاقل إلى التاجر و خادمته. أحسّا بأنه ليل . انحنت الفتاة لتتناول
المفتاح و أمسكت به بين يديها و كأنها
تمسك بسلاح.
من يكن فليكن، فلابد من أنه يخشى الموتى . و هكذا أمسكت
بالمصباح و خرجت من الغرفة و عبرت من خلال المتجر ، و سارت باتجاه المدخل . هناك
كانت الحياة خطرة . العاصفة كانت ترعد و الثلج تراكم بين الأشجار . البوابة ارتجت
و اهتزت . شخص صاح بصوت عال:
افتح !افتح ! دعوني أدخل!
ألقت المصباح من يديها على أرض المدخل، ووضعت المفتاح في جيب صدريتها و بدأت
تهم برفع المزلاج الثقيل .لا بد أن ذلك قد سمع في الخارج ، لأن الصمت كان مخيماً
في الخارج . عندما أرادت أن تفتح كان المزلاج قد تجمد من الصقيع . حينها فكرت في
أنه عادة يُسأل من الطارق؟ كان ذلك سائداً حينها. كان ذلك دائماً سائداً في ذلك
الزمان.
من الطارق ؟ صاحت.
لم تسمع إجابة، حينها قالت لا يهم، و مضت لتأتي بشي ثقيل لتضرب به المزلاج كي
تستطيع رفعه . ضربت ثلاث ضربات قوية، و فتحت البوابة ، هبّ الثلج و الريح إلى
الداخل أولاً و انطفأ الفانوس ثم دخل شخصاً أبيض مغطى بالثلج ودخل وراءه
مزيد من الثلج و الظلام و الريح. الخادمة صرخت وسقط من بين يديها الوزن
الثقيل . الغريب أغلق البوابة . الآن هما
في الظلام ينظران إلى بعضهما البعض دون رؤية شيء. مثل انسان عندما يرى
الله. أخيراً قالت الفتاة :
من أين السيد قادم؟
أنا من قرية "جيدر" مقاطعة سورملاند.
يا إلهي صاحت الفتاة ثم سرعان ماساد الصمت.
لكن الغريب بدأ يسير باتجاه المدخل بخطوات واسعة و
ذراعين ممددتين. و سرعان ماوقف أمام خزانة ، من فوق الخزانة سقط شيء ثقيل على
الأرض. الغريب توقف.
ما الذي على سقف
الخزانة؟ قال سائلاً.
إنه شمعدان، خرج الصوت من الظلام؟
من معدن؟
من فضة.
بعد لحظة تابع سيره. لكنه الآن يحمل في يديه اليمنى
سكيناً !
و لكن اليسرى
لمس شيئاً بارداً ، ناعم ، أبيض: بشرة خد فتاة في الشتاء. سار باتجاهها و هي لم تتجنبه . سألها:
هل أنتِ خائفة؟
لا، أجابت الفتاة . أنا من "جيدر".
ساد الصمت . الرجل الذي هو أيضاً من "جيدر"
سقط من يده السكين.
ما الذي وقع منك؟ سألت الفتاة.
لقد كان الطقس بارداً على الرجل من
"جيدر". لماذا اتجه الرجل
شمالاً؟
لمس خدَّ الفتاة البارد مستغرباً:
ما الذي جاء بك بعيداً إلى الشمال البعيد؟
كيف قدمت أنت بعيداً إلى هنا.. إلى الشمال؟
دفعتني الريح إلى هنا، أجاب و ربت على ظهر الفتاة و على
كتفها.
ربت على خصر الفتاة و على ظهرها و على بطنها الكبير .
إنهم يعاملوننا جيداً هنا في الشمال قالت الفتاة.
لقد لاحظت ذلك جيداً أجاب الرجل الذي من
"جيدر" . ما الذي وقع منكِ أنتِ؟
وزن، قالت الفتاة ، المزلاج كان متجمداً.
وزن ! هل أنت تاجرة؟
لا أنا لست تاجرة لكن سيدي تاجر.
أشعلي الفانوس ، قال الرجل الذي من "جيدر"
أريد أن أراه.
الفتاة غابت في الظلام . سمع كيف أنها فتحت الخزانة و
سمع تنقلها و هي تزحف على الأرض و هي تبحث. و في نفس اللحظة التي أضاءت الفانوس
التقط هو السكين و أخفاه داخل معطفه. الفتاة أخذت المصباح من الأرض و رفعته باتجاه
و جهه. كان رجلاً طويلاً عريضاً ، كان رجلاً فاضح الملامح. كان مغطى بالبياض من رأسه
حتى قدميه، و لكن شيئاً فشيئاً بدا الثلج يذوب أمام دفء الضوء و تهاوت قطرات ثقيلة
من الماء على الأرض. و جهه بان عارياً يرنو
إليها من الظلام ، عارياً و متوحشاً، و عيناه تشعان.
أين سيدكِ؟ قال سائلاً و أشاح بوجهه في اتجاه آخر.
لم أتعرف عليك ، قالت الفتاة ما هكذا يبدون من هم من أهالي "جيدر"
.
"جيدر" كبيرة ، أجاب الغريب ، و أنا كنت
غائباً في الحرب لستة أعوام .
فجأة سحب السكين و رفعها أمام المصباح .
السكين كان طويلاً و براقاً.
نظر من حوله في المدخل ، كان و اسعاً ، نظيفاً و أبيض ذا
سقفٍ عالٍ.
الخزانة كانت ثقيلة و منحوتة ، بدت و كأنها تحتوي على
أشياء ثمينة. الأبواب الملونة برسوم الأزهار الزرقاء و المرايا تفضي إلى غرف كبيرة
و ثرية . درج عريض ملون بالأبيض يؤدي إلى الطابق العلوي في العتمة. نظر إلى الفتاة
و هي بادلته النظر دون ارتياب.
هل هو غني؟
ليس فقيراً مثلي. قالت الفتاة.
هل هو عجوز؟
عجوز ، مريض و وحيد. أجابت الفتاة
هل له ناس
يحزنون عليه؟
أنا سوف أحزن عليه كل الشتاء. أجابت.
لا أكثر؟
لا أكثر.
سوف أصطحبكِ معي ، حين يموت. قال الرجل.
لا تستطيع ، فإن وزني ثقيل جداً.
نزع الرجل قبعته البالية عن رأسه و رمى بها جانباً.
و نزع معطفه لدرجة أن الثلج المتهاوى منه صار على شكل
غيمة محاطة به.كيانه كله تضخم، و بان السكين أطول مما كان عليه في الواقع. من داخل
البيت دقت الساعة و الرجل الذي من "جيدر" دار على نفسه بتثاقل و بدأ
يسير باتجاه الغرفة التي يرقد فيه التاجر. لكن الفتاة بقيت في مكانها دون حراك.
ألا تضيئين لي ؟ استغرب الرجل.
أجابت الفتاة: لن تقتله.
أتتوسلين؟
لا.. لا أتوسل إليك. لكنني أقول الحقيقة: لن تقتل هذا
الرجل.
التفت ببطء شبيه بتحول النهار إلى الليل .
تشنجات الغضب بقيت عالقة على جبين الرجل و هو يدخل السكين حتى المقبض في عضاضة الباب.
أنت تبحث عن شخص غني ، قالت الفتاة.
نعم أجاب الرجل.
هنا في البيت، همست الفتاة ، يوجد شخص أغنى ممن تبحث
عنه.
الرجل سحب السكين ببطء، لم ينظر إليها بل نظر إلى
السكين.
أنت تبحث عن شخص
غني، عجوز ، و وحيد و ليس له أحد يحزن عليه.
نعم أجاب الرجل.
هنا في البيت . أردفت الفتاة يوجد شخص ليس هناك من في
غناه و وعجزه و وحدته على وجه الأرض.
أريني هذا الشخص قال الرجل و هو ينظر إلى السكين.
سأفعل همست الفتاة و مضت حاملة الفانوس باتجاه باب أبيض
صغير بجانب الدرج. هنا سندخل.
و دخلا الغرفة التي كانت فيها الجثة كانت غرفة صغيرة
ضيقة و شرشف كان يغطي النافذة. الجثة كانت ممددة على طاولة بجانب الحائط . و غطاء
السرير ملقى عليها. لكنها لم تكن ممددة كما نرى الموتى عادة، على ظهورهم و أيديهم
موضوعة على صدورهم، و أرجلهم مستقيمة و هسمات وجوهم هادئة كالنور. إنها ممددة على
الوضعية نفسها حين تم العثور عليها، ملقاة على جانبها و متكورة على نفسها و
ذراعيها يغطي وجهها كمن يحمي نفسه من العاصفة و كان في شعرها جليد. الفتاة أضاءت
على جثة "ماريا لارسون" و قالت:
هذا ما تبحث عنه.
كانت الغرفة باردة كالجماد و الموت. كان البخار يخرج من
أفواهما و لكن من فم الميتة لم يكن هناك بخار يخرج. الرجل الذي من
"جيدر" سقط منه سكينه. خياله
انعكس على الفراش كطائر كبير.
هنا تستطيع أن تأخذ كل شيء قالت الفتاة. إنها لم تعد
بحاجة لشيء.
الميتة كان ترتدي حلقاً ذهبياً كبيراً في أذنها الذي كان
في اتجاه الضوء .
الرجل الذي من "جيدر" التقط السكين و شد مقبضه
عليها. فجأة أدار بوجهه عن الميتة و رمى بالسكين خارج الغرفة. و مضى السكين في
العتمة و استقر في خشبة هناك.
هكذا قاتل! قالت الفتاة ، يرمي بسكينه!
لكن الرجل الذي من "جيدر" لم يسمع. من فوق رأس
الميتة شاهد العالم على حاله:
الأغنياء لا يبقون أبداً وحيدين.
و أغنى الأغنياء قد ماتوا منذ زمن.
الجاني ولد متأخراً.
الفتاة أبرمت المفتاح في قفل الباب و أغلقته و الميتة
عادت كما كانت و حيدة و غنية و حرة.
في باب الخزانة كان السكين مغروزاً يهتز.و لكنه لم يكن
ذلك السكين الذي رأته الفتاة من قبل.
فجأة و هي واقفة هناك و يدها على المفتاح رأت شجر البلوط
. على شجر البلوط يجلس أحدهم و من فوقها القمر . كان الدنيا صيفاً، و كان هناك منجلاً مسنداً على الشجرة. و من
خلال الثلج و الصقيع فاح رائحة قش مقطوع للتو، و في وسط العاصفة سمعت صوتاً في صدرها،
و قالت بصوت خافت و هي تنحني برأسها إلى الأسفل:
إذا كان صبياً ، فما الأسم الذي سأسميه؟
الرجل الذي من "جيدر" تبعها بصمت في
المدخل ومن خلال الباب إلى المطبخ الذي
كان فيه الورود. هناك جلس على مقعد و رأى كيف
وعاء كبير من الطعام و قطعتين من الخبز الميبس وضع على الطاولة. الآن بدأ
يأكل لحظة ، ثم أردف قائلاً:
سميه هنريك أبراهام . إنه اسم جميل.
الفتاة جلست بجانبه و ضعت اصبعها في وعاء الطعام و امتصت
اصبعها . العاصفة رعدت و المنزل أطلق أنيناً كالطفل.
مسكين هنريك أبراهام قالت الفتاة أخيراً لم اتعرف عليك.
لا أحد يتعرف عليَّ، قال الرجل.
مسكين هنريك أبراهام قالت الفتاة ، لم أستطيع الانتظار.
لم يستطع أحد الانتظار، قال هنريك أبراهام . و الديَّ
كانا قد توفيا . و أخوتي كذلك ، الكاهن كان قد مات أيضاً، و قارع جرس الكنيسة
أيضاً، الطاحونة كانت قد احترقت و الجسر كان مقطوعاً .يجب ألا يعود أحد إلى بيته
بعد حرب طويلة.
الآن عاد الرجل يأكل لحظة أخرى.و لكن الفتاة ذهبت إلى
الردهة وفتحت صندوقاً. في الصندوق كان ثمة ورق أبيض و محبرة وقلم طويل فتحت الصندوق و أخذته إلى التاجر و وضعت الصندوق على
غطاء السرير بجانبه.في الوقت التي كانت الخادمة بعيدة عنه كانت حالته قد استاءت
أكثر . عيناه بدتا كرأس مسمار ، و بدا الذباب يحوم حول وجهه. كان يحاول طردهن و
يريد أن يتذكر في أي عالم كان.
هل قدم أحد إلى هنا؟ تمتم قائلاً.
جاء رجل قالت الخادمة .
رجل يستطيع أن يقوم بالمهمة.
ضرب التاجر بيديه
لكن الذباب لانهاية لها. بالكاد كان يرى خادمته.
الآن سوف تكتب رسالة قالت الخادمة و هي تفتح الصندوق.
بللت القلم ، و وضعت الورق على الصندوق و وضعت الريش في
يده. أملت عليه كلمة كلمة و كلمة بعد الأخرى كانت ترتسم على الورق ، حتى انتهت
الرسالة. و لكن عندما أراد هو نفسه أن يكتب اسمه لم يتمكن من التذكر. كتب اسماً
آخر . كتب "ماتياس لارسون". الخادمة لم تنتبه لذلك لأنها لم تكن تعرف القراءة و الكتابة أصلاً، و
لكنها رأت كيف ينسحب منها كما ينسحب الزورق من الشاطئ ،أمسكت بيديه و قالت مشجعة:
لا تقلق . إنه رجل جيد. عندما يكون عاقلاً فليس هناك من
هو أكثر عقلانيه منه. و حين يكون مجنوناً فقلة من يكونون بذلك الجنون. أعرف ذلك
لأنني أحببته. أعرف ذلك لأنني خنته. و لكنه لم يخض أبداً حرباً. على الرغم منه أنه
يظن ذلك. كان في ذلك المكان الذي عادة من يؤمنون يكونون هناك.
لكن التاجر كان قد ابتعد في بحيرة أحلامه . تنهد تنهيدة
عميقة ثم همس: أسرعي ، أسرعي! إنه ابتعد.
بعدها سقط رأسه على المخدة و لم يعد يسمع الذباب.
لكن الخادمة أخذت الرسالة و المصباح و استعجلت إلى
المطبخ. الوعاء كان فارغاً و الخبز لم يعد موجوداً و هنريك أبراهام لم يكن موجودا
هناك.
بحثت عنه في الصالة ، و في المكتب وفي المتجر ، لم يكن
في أي من تلك الأماكن. و لكنها حين عادت
إلى البهو رأت ظلاً و بيده سكين خارج غرفة الميتة. لقد كان هنريك أبراهام. بدأت
تركض باتجاهه بفانوسها الصغير. هنريك أبراهام أوقفها و قال ببطء : هناك أحد دخل .
الفتاة التقطت المفتاح البارد الثقيل من جيبها . و بخلسة
خطت إلى الباب و بدأت تتحسسه.. لم يعد مقفلاً . استقامت بطولها و نادت بصوتٍ عالٍ:
من هناك في الداخل؟
و عندما لم يجب أحد
فتحت الباب و دلفت إلى الداخل و خلفها مباشرة دخل هنريك أبراهام بسكينه.
لكن الغرفة كانت خاوية . الميتة كانت على الطاولة نفسها التي كانت عليها حين فارقت
الحياة . الفتاة أضاءت عليها بالفانوس و بعدها باتت على وشك أن يقع المصباح من
يدها. أضاءت مدة أطول . و قالت لهنريك أبراهام:
هل أخذتها؟
أجاب:
لم آخذها. لم أكن هنا.
لكن الحلقة التي كانت في أذن الميتة قد اختفت .عادا
خارجين من الغرفة و أقفلت الفتاة الباب بحزم و بطء.
وقفا على مسافة من الباب و بقيا منتظرين . مضى وقت طويل،
و لم يحدث شيء ، الفتاة اقتربت خلسة من الباب و تحسسته لقد كان مقفلاً كما يجب،
المصباح كان يضيء بوضوح و قوة .شعرت بالرضى لحظة . وقفت هناك مستعدة و هادئة أمام الباب المقفل و هي تحس بالجنين يرفس في جسمها كحصان سماوي.
و بعدها سمعا التاجر يصرخ.
ماتياس ! ماتياس! صاح مرتين و بعدها ساد صمت تام.
الفتاة شحب وجهها و انقلبت سحنتها ، الجنين تقلص في
داخلها. هنريك ابراهام أوقع السكين .
من هو ماتياس؟ همس قائلاً.
المزارع في حديقة "فاليت".، أجابت الفتاة. يجب
أن أذهب إليه الآن.
و لكنها لم تدخل ، لأن الضوء انطفأ، و لم ينطفىء من
تلقاء ذاته ، بل أحد ما أطفأه.
أشعل المصباح ، هنريك أبراهام ! صرخت . أشعل النور!
لكن هنريك أبراهام لم يعثر على شي في الظلام. ركض في
البهو بذراعين طويلتين مفتوحتين ، و أحياناً كان يصطدم بها و يصارعها .
هذا أنا ، كانت تصرخ و حينها كان يتركها للحظة.
شيئاً فشيئاً عثرت على ماكانت تبحث عنه و أشعلت الضوء.
عاينا الضوء القديم و استبدل بفتيل ضوء
جديد.. كان الفتيل قد أصبح رقيقاً و يمكن اطفاؤه باصبعين مبللين.. رفعت الضوء على
رأسها و أنارت على الجدران .
لم يكن هناك أحد في البهو و الباب كان مغلقاً.. لكن
هنريك أبراهام كان جاثياً على الأرض يلتف حول نفسه باحثاً عن شيء ما. سكينه كان قد
اختفى.
الفتاة ناولته الرسالة التي تريد إيصالها لمزرعة
"فاليت".
أعد نفسك للذهاب ، أنا سوف أبحث عن سكينك.
في المطبخ لم يكن موجوداً. و لم يكن في الصالة . و لم
يكن في المتجر ، و لم يكن في المكتبة. لقد كانت تعرف طوال الوقت أين كان السكين.
أضاءت على التاجر ، لم يعد يرى ذباباً ، لأن السكين كان مغروزاً في منتصف قلبه.
الفتاة سحبت السكين و جففته بملاءة السرير. بعدها أطفأت الشمعة و أخذت شالها من
الكرسي و خرجت إلى هنريك أبراهام ، حيث كان ينتظر في الظلام.
هل وجدته؟ قال سائلاً.
نعم، أجابت الفتاة . الآن سنذهب.
هنريك أبراهام فتح البوابة و الثلج و الظلام و الريح تسرب إلى داخل البيت . نزلا من على درج التاجر. لم يجدا شيئا سوى ظلام دامس
يخيم على المكان.
هل معك الرسالة؟
صرخت الفتاة.
نعم معي الرسالة ، صاح هنريك أبراهام مجيباً.
ستيغ داغرمان
1923-1954
النص النثري المرفق مأخوذ من مجموعته القصصية ألعاب
الليل .
نشر بموافقة من مالكي حقوق مؤلفات ستيغ داغرمان ،
ستوكهولم، السويد.
(published
with the approval from the Stig Dagerman Estate).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق