الأربعاء، 22 يوليو 2020

المحكوم عليه بالاعدام


المحكوم عليه بالاعدام
قصة: ستيغ داغرمان
ترجمة: فرمز حسين

سألوه أولاً كيف كان شعوره حين دخل عليه  الجلاد من خلال باب المنصة الخشبي الصغير و عيناه تلمعان من خلف القناع الأسود المشدود على وجهه، و بنداء خافت طلب منه أن يهيّء نفسه، لكنه أجاب بأنه لا يتذكر ذلك، لأنه في تلك اللحظة كان قد اكتشف تواجد والدته جالسة على المدرج بين جمع من الحضور  وهم يستخدمون كراساتهم لتهوية وجوهم. عندها سألوه كيف كان شعوره حين عُصبَ عينيه و هو يعرف بأن آخر شيء سيراه هو ذاك الجزء الداخلي من قماش العُصاب  الأسود. عن ذلك أجاب لأنه منذ زمن بعيد قد اعتاد أن يكون بعيد النظر و أن لا يكون تفكيره محصوراً في التو و اللحظة فإنه فقط يتذكر ذلك الخاتم البارد الحاد الذي كان في أحد أصابع الجلاد و التي جرحت أذنيه عدة مرات قبل أن يتم وضع العصاب على عينيه و ربطه بحزم حول عنقه. و تابع يصف رائحة نشارة الخشب القوية و التي أعادت بذاكرته إلى مشاهداته للسيرك أيام الطفولة و بذلك المهرج المطلي باللونين الأخضر و الأحمر، و بتلك الموسيقا الصاخبة من مدرج جانبي صغير و تلك المطربة الشابة السيئة السمعة و المعروفة في الدينا كلها ببجمالها و بمرضها الزهري التي أصيبت بها.
عندها لم يطالبوه في الغوص أكثر فيما لا أهميه له و لكن أن يتحدث  لهم عن الأمر الذي كان  الأصعب تحمله: هل كانت الضجة الصاخبة التي أحدثها معاونوا الجلاد بأدواتهم  المعدنية عندما كانوا يهيئون للاعدام و  يزيلون المعالم المتبقية من الاعدام الذي نُفذَ في اليوم الفائت و يدقون مسمارا  هنا و آخر هناك للتحضير  للاعدام الجديد ؟ أو ذلك السكون التام الذي ساد المكان  عندما  انتهوا من تجهيز كل شيء و  بعدها امساك الجلاد به من كتفيه بهدوء لكي يوجهه إلى مكان تنفيذ الحكم؟
بعد أن فكّر لفترة أطول مما يجب قال بالطبع كنت أفضل الصمت التام على الضجة الصاخبة و لكن الأمر كله لم يكن بتلك الأهمية بالنسبة له لأنه منذ الأسبوع الأول  في السجن كان قد مرّ من خلال العيش في عزلة تامة، نعم في الواقع كان الصمت التام هو السائد ، صمت مستدام  للغاية لا يشوبه حركة إلا نادراً جداً فحتى  سلوك الطبيعة مرة ما  قد تشذ مثل أن تصعد سمكة من من فوق سطح الماء و كأنها تبحث عن طريقة تستنشق من خلالها بعض الهواء ثم تعود إلى الغوص في الماء من جديد مخلفة دائرة طفيفة في الماء وراءها، هذا كل ما يحدث و لا شيء آخر. و لكن من ناحية أخرى فانه لا يستطيع أن ينكر بأنه شعر  بلحظة توتر  عند ما كان الصمت على أشده ليس من الصمت نفسه فالصمت كان على المنوال نفسه دون تغير و لكن من الصخب الذي كان يقطع ذلك الصمت.
لقد كان  واقفاً هناك و عيناه معصوبتين، أعزلأ وسط الظلام و لم يكن في استطاعته القاء نظرة واحدة و هو يسمع كل الأصوات الخافتة التي كانت تأتي من المدرج ثم تزول و كأنها تتبخر و أصوات الخطوات الثقيلة بدأت تتوقف و تزحف على جدران القاعة، حتى صوت ارتطام كرة اليد على الأرض من صالة الرياضة التابعة للحرس اختفى و كأنهم قد ذهبوا في إجازة.
حينها صدر صوت عنيد من أعلى المدرج و جعلني ألتفتُ نحوه، مع أن الالتفات باتجاه الصوت كان بلامعنى يذكر لأنني بكل الأحوال لا أستطيع رؤية شيء، لكن و كأنني أرى من خلال بث تلفزيوني كنت  أفهم ما يجري هناك في الأعلى و من خلال تصوري لهؤلاء الصحفيين و أصوات كراساتهم و صرير أقلامهم وهي تكتب و كأنها ترفرف داخل دماغي. كذلك كان صوتاً قد اعتدت على سماعه منذ أشهر مضت، قال ...حتى والدتي..
حينها قالوا له بأن لاحاجة لأن يسترسل كثيراً  في التفاصيل, لأن على الرغم من كل  ذلك فان المهم في الأمر الآن  هو أنه حي يرزق، لكن شخصاً واحداً  كان الأكثر الحاحاً من بين  الحضور , رجل ضئيل ينتابه نوبات سعال و يرتدي حذاء مطاطياً كبيراً  و معطف ذو وبر طويل و فضفاض أيضاً و يسأل بنبرة عالية فيما اذا حقاً قد انحنى أمام الجلاد حين أخذ منه كلمته الأخيرة.
عن ذلك السؤال لم يجب اطلاقاً  و الذين كانوا بالقرب منه  شاهدوا  كيف أغلق فمه للتأكيد على سكوته ثم بدأ بالترنح الى الأمام و الخلف و ازدادت  خطواته في الترنح، مثل شخص في طريقه الى الانزلاق و السقوط.و فعلاً سقط  فجأة  وسط كومة من الثلوج، و لكن حين انحنوا عليه و أزاحو الثلج من على وجهه لا بد أنه حينها استفاق لأنه همس عدة مرات طالباً المساعدة، يجب أن يساعدوه قال هامساً, لأنه ليس هناك من بحاجة  أكثر منه الى المساعدة.
عندها ارتأى الجميع بأنه يجب أن يشرب شيئا ما و نهضوا به من بين الثلوج.
أحدهم أحضر سيارة و تدافع أكبر عدد ممكن من الحضور لركوبها ثم انطلقت بسرعة جنونية من خلال تلك الشوراع المظلمة.
أحد الرجال بلباس أنيقة و جالس في المقعد الأمامي أدار بوجهه بشكل لافت عندما عبرا من أمام أحد أعمدة الانارة في الطريق و تسرب ضوءه البارد من خلال بلور النافذة ابتسم بشكل مشجع له محاولاً أن يظهر ابتسامة لائقة، لكن فمه كان متجمداً.
الى أين نحن ذاهبون في السيارة؟ سأل بصوت خافت لم يسمعه أحد.
السيارة كانت من تلك السيارات السوداء الكبيرة التي تناسب مراسيم الدفن. ظلال هؤلاء الرجال الكبار الذين كانوا يرتدون بذلات سوداء لامعة ينم عن أنهم من هؤلاء الذين يؤدون حركات حزن لافتة و محرجة ربما كل صباحية أيام الأحد و يتزاحمون بقوة للركوب و بعدها يكون سفر طويل في الطريق إلى المقبرة، يجلسون وهم ينظرون إلى القبعات لكي يتمكنوا من البكاء و يصبح كل شيئ معتماً في السيارة، مظلماً و خانقاً  لدرجة يصعب معها  التنفس في داخلها.
الرجل الجالس في المقعد الأمامي لم يحول عنه نظره , خلع قبعة الفرو  عن رأسه و بقي محدقاً فيه بنظرة مطولة و محرجة دونما كلل.كانت رائحة الدفن و الدموع الكبيرة تفوح من المقاعد، اغمض عينيه و صرير احتكاك صباغ الأحذية وهي تحتك ببعضها ارتفع ليغطي على صوت محرك السيارة الرتيب. وحين عاد و فتح عينيه, متعباً من كل ما جرى خلال الأربعة و العشرون ساعة الماضية، كان الرجل لايزال يحدق فيه بالوتيرة نفسها.
جميل أن تصبح حراً؟ قال الرجل ذو قبعة الفرو, لابد أنه احساس  رائع, أليس كذلك؟
جميل أن تكون حراً؟ أليس كذلك؟ حاول ان يجد موضعاً لمرفقه،لكنه كان مثل الجالس في قفص من اللحم، حاول أن يمد قدميه, لكن ظهر مصارع عريض منعه من ذلك. لم يكن يملك تلك الحرية التي تخوله بايقاف السيارة و مغادرة كل هؤلاء الفضوليين، السكارى  أو بالأحرى سكارى كثيري اللغو و الكلام، و يغيب لوحده وسط صفاء الثلج المتساقط، كان قد تحرر من سجان اسمه كارلسون و الذي لمرتين بين فترات شهور التفتيش و الحكم نجح في دفعه الى كتابة رسالة إلى أحد السجناء الذين معه و بعد ذلك خَبرَ عنه لكي يتم معاقبته بسوط بني في قبو السجن، كان قد تحرر من الجدران الرمادية الأربعة و من ذلك السقف الأزرق المتشقق و الذي  كان دائماً  فيه رطوبة و عناكب، لكنه لم يكن حراً من ثمانية أشخاص   يضغطون عليه بسور أجسادهم و ملابسهم السميكة في سيارة سوداء كبيرة. مع ذلك ابتسم للرجل صاحب قبعة الفرو، السيارة خففت من سرعتها، دائرة من الضوء ارتسمت أمامهم على رقعة جليد زرقاء كبيرة, كانوا قد وصلوا الى ملعب للتزلج  مليئ برقع ظلال رمادية . يا الهي ما هذه النزوة السخيفة قال في نفسه, أنا حر الآن، حر للمرة الأولى منذ شهور، حر طليق بكل بساطة، أعود الي الحياة بعد أن كنت قريباً من الموت. لكن مع ذلك أحس بشعور من عدم الارتياح يطغى عليه بعد أن خرج إلى العراء و تجمع من حوله جمهور يثيرون لديه القلق و عدم الارتياح و كأنهم حشد من السجانين. كانوا يقاطعون بعضهم بالحديث, أحياناً يسود الصمت: كانوا ينتظرون جوابه، لكنه كان قد اعتاد على الأصوات في عزلته و كان يجد صعوبة في فهم ما يقولون عندما كانوا يتحدثون سريعاً و بصوت عال.
مع ذلك دخلوا  بعد لحظات من المشي في الثلج إلى داخل بناء كبير مضيئ سمع أصوات الموسيقا صادرة من خلف بعض الأبواب العالية و همسات محادثات هادئة. انزوى بحذر  و تمسك بطرف أحد الأبواب المفتوحة جزئياً و استرق النظر في الناس و استمع الى الموسيقا، و أحس بالدفء و بأنوار تلك المصابيح الصغيرة على المناضد, و تلك المحارم الورقية الزاهية، السجادة الباهرة الممددة على الأرض و البريق الصادر من كل تللك الزجاجات الخضراء جعلته على وشك الانفجار بالبكاء بعد كل تلك الفترة من العزلة, و البرودة, و الخوف و القلق و السوداوية. فجأة استفاق من وهلته حين أحد الحراس أمسك به من كتفه, شعر بالخوف و أراد التخلص من بين يديه, و لكن أحد الرجال من الذين كانوا في السيارة جره معه الى أعلى الدرج. سار الجميع من خلفهما على الدرج الضيق المفروش بالسجاد، كانوا مثل الجموع التي تسير خلف حفل زفاف و هو و الرجل الثخين كأنهما العروسين. على رأس الدرج الذي كانت جدرانها مغطاة بمرايا كبيرة التقوا بطباخ طويل شاحب بوردة ضخمة ذي رائحة قوية في عروة سترته. الثخين وشوش بشيء ما له و بدون أن يبدو عليه أية أحاسيس انحنى الرجل الطويل الشاحب أمام المحكوم عليه بالاعدام و قال بسرعة, و كأنه لم ينطق بشيء من قبل طوال حياته:
انقاذ باعجوبة. حقاً انه انقاذ بأعجوبة.
الغرفة كانت على ما يبدو قد حجزت من ذي قبل، غرفة منفصلة بأضواء خافتة  و لوحات معلقة على جدرانها. صوت موسيقا خفيفة كان يُسمَعُ من المطعم الذي كان في الأسفل.  بينما كانوا جالسين حول الطاولة الطويلة الوحيدة في الغرفة و إحدى العاملات جاءت مسرعة و هي تحمل طبقاً عليه بعض الزجاجات و الكؤوس لاحظ بشيء من القلق كيف ساد الصمت الغرفة.
المرأة التي ملأت كوبه بسائل أخضر مركّز كانت ذي عينين حزينتين راقبته بشكل غير متوقع. سكبت سهواً بعض السائل على ذراع معطفه لكنها لم تعتذر عن ذلك, ابتسمت  بثقة عن بعد مثل التي ترى معجزة و تكون غير مصدقة ذلك.
بالطبع كانت تعرف كل شيء، الآن ينتظر فقط أن تبادره بالأسئلة مثل تلك الصحفيات اللواتي أحطن به  مباشرة بعد إطلاق سراحه وهو خارج من  دهليز السجن: هل أنت سعيد الآن؟ كانت تلك هي الكلمات الأربعة الأولى التي يسمعها من بعد الجلاد و مدير السجن. هل أنت سعيد الآن؟ كان مضطراً ليطلب منها اعادة السؤال لأنه لم يكن يعلم ما تقصده. أعني بأنك  حتماً سعيد لأن كل شيء قد انتهى و انزاح, قالت بارتباك فيما كانت ترسم بعض الخطوط الغير مفهومة في كراستها .
عندها أحس بالخجل من احراجه لها لأنها كانت فضولية و تواقة للاطلاع و لكي يضع الأمور في نصابها فقد طلب منها أن تخبر جريدتها بأنه الآن أسعد من الجميع، و لكن يجب أيضا التفهم بأن الضغوط كانت عظيمة و أنه كانت متعباً للغاية.
جرّبَ أن يشرب قليلاً و سار ذلك الشراب القوي كالنار في جسده و عندما شرب للمرة الثانية لاحظ كيف أن ضعفه في السابق كان مزعجاً فقط أما الآن فيحس و كأنه خدر دافء وممتع، و كأنه متمدد على أريكة طويلة ناعمة و يريد ان يخلد إلى النوم. عندها رفع أحدهم نخبه من الطرف الآخر للطاولة و حين تفاجأ و انزعج من المضايقة و نظر  إلى الأعلى فتلقى نظرات محدقة عنيدة من الرجل الذي كان للتو في السيارة، ولكن بدون قبعة الفرو كان رأسه شبيهاً بصخرة عالية من الطباشير الضائع في الغيوم.
عندما شرب هذه المرة بدت بعض الملامح التي كانت قوية ان تضمحل، فجعله ذلك أن يشكك ليس بالكحول و ليس بعينيه ولكن بحقيقة ذلك الاضمحلال من حوله. ركزّ بتفكيره و استطاع أن يفهم و يرى بوضوح و ببرودة، لاحظ أشياءً في الغرفة لم يكن يلاحظها من ذي قبل : التمركز من حول الطاولة على سبيل المثال كان غريباً و مقلقاً. في مواجهته من الجانب القصير للطاولة كان يجلس الرجل البدين على كرسي ذو إطار عريض مرتفع. مثل قاض، تماماً مثل قاض، ظنّ ذلك. و في الجوانب الطولية يجلس المقيمين و هم يطبلون و يقرعون بقاع الكؤوس عل الطاولة  و يرمقون المتهم بنظرات سريعة مخادعة ، أي هو نفسه.
عندما بعدئذ بدأوا  يطرحون أسئلتهم كانت اجابته فيها بعض الشك و التحدي، نبرة لم تكن موجودة من ذي قبل، عندما قابلوه بدافع الفضول خارج باب السجن، وهم كانوا يرون بأن ذلك السلوك ليس له مبرر و غير لائق.
الباب أغلق باحكام من خلفه و الخادمة الشاحبة اختفت, الموسيقا من الأسفل لم يعد يُسمع، أصوات وقع الخطوات التي كانت منذ دقائق تسمع من على الدرج انقطعت تماماً. سوف يسود هذا الصمت حتى يبدأ الاستجواب، حتى يزيح القاضي الكأس من بين شفتيه، حتى يبدأ هو و يدافع عن نفسه ضد المجهول.
طيب .. قال أحدهم فيما بعد، حقاً كيف كان شعورك  أن تكون بريئاً و تدان كمذنب و يحكم عليك بالاعدام بدون أن تتمكن من أن تحرك ساكناً و تؤثر على الأدلة و الاثباتات؟
لا شيء مميز أجاب بعد فترة من الزمن بدا ذلك عادياً تماماً.
لم يستطع أحداً  أن يفهم  عندما سألوه: ألم يخلق عجزه أمام وحشية الحكم إلى الاحساس بالمرارة  والرغبة في الانتقام؟ لكنه أجاب أنه حقيقة قبل كل شئ كان متمرداً و لكن ليس على الاتهام الغير عادل و لكن ضد المعاملة الظالمة في السجن.
الرسالة التي كان قد كتبها إلى سجين معه و التي  خلقت الصحافة منها ضجة كبيرة لم تكن تحتوي على شيء حول الجريمة نفسها و لكن فقط كانت لدعوته إلى الاضراب عن الطعام من أجل تحسين طعام السجن.
لكن لابد أنك شعرت بالكراهية و الرفض، قال الرجل البدين في نبرة غاضبة، لابد أنك حزنت جداً من حكم جائر كالذي حُكمتَ به، البرئ بدل المذنب، القاتل الافتراضي بدل القاتل الفعلي.
عندها أراد أن يجيب عن السؤال بسؤال.تَساؤلَ فيما إذا أحداً منهم شعر بالتعاطف معه طوال الوقت الذي كان يتم التحقيق معه متهماً بقتله لزوجته. رداً على ذلك السؤال فقد أجابوا عن غير رغبة بأنهم لم يشعروا بأي تعاطف معه  لأن الجريمة كانت وحشية و خالية من أية ظروف مخففة للحكم. واحداً  منهم قال أنه كان يستطيع التعاطف معه لأن وراء كل جريمة تُقتَرَف شخص يرتكبها من جراء معاناة يعيشها و لكن ليس قبل أن ينال جزاءه الذي يُعدُّ تكفيراً  عن الجرم الذي اقترفه.
عندها سألهم اذا كانوا الآن مستعدون للتعاطف معه من أجل الظلم الذي تعرض له في السجن. أجابوه بأنه يستطيع أن يكون واثقاً من كامل تعاطفهم معه و أنهم سوف يفعلون كل ما بوسعهم من أجله، كل مايطلب، لأن محاكمته تركت تأثيراً عميقاً عليهم.
عندها استغرب و قال بنبرة حادة : أي نوع من البشر أنتم!
لماذا؟ أجابوا  متأثرين من حدة لهجته، ماذا تقصد؟ تعني بأننا مختلفون عن الآخرين على نحو ما؟ أخبرنا ما الذي تعنيه بالضبط.
نعم، قال أعني: أي نوع من البشر أنتم؟ مرة تشمئزون و تكرهون أحدهم و  مرة أُخرى تغمرونه بالتعاطف، دون أن يحدث أي تغيير مع موقف الشخص نفسه يشكل دافعاً لتغيير مواقفكم. كيف يمكن للمرء أن يثق بعطفكم عندما لا يستطيع حتى أن يثق بقسوتكم؟
احتجوا بشدة على ذلك و قالوا أنه ليس على حق. في الواقع فعلاً صحيح بأنه هو نفسه لم يتغير، لقد كان بريئاً طوال الوقت، و لكن الأمر الذي أخذ في الاعتبار هو أن الدلائل الدامغة عليه كانت قوية لدرجة أنها أظهرته كمذنب مدان. عندها استغرب من كونهم أصبحوا بكل هذا التأكيد من خلال  تصديق كل ماكتبته الجرائد و قالته الشرطة و أن كل ذلك كان صادقاً و صحيحاً، عن ذلك أجابوا بأنهم كانوا يَفترضون ذلك، لأن ذلك في الواقع احدى الأسس الهامة لدولة القانون أي أن يضع الجميع ثقتهم بما ترويه السلطة عن المتهمين و جرائمهم.
عندها تأثر فوراً و بشكل كبير, وضع كأسه على الطاولة بعنف لدرجة أن قاع الكأس تحطم و انسكب الكحول على الطاولة مكوناً بقعة بيضاوية الشكل على الملاءة الثمينة الممددة على الطاولة، و أصبح وجهه شديد الاحمرار و أَحَسَّ بالحارة تَصعدُ في جَسده.
أستطيعُ الاستغناءَ عَنْ تعاطفكم قال بحدة، لستُ بحاجة إلى ذلك أبداً . من الأسبوع الثاني في السجن اكتشفتُ بأَن التعاطف في الواقع يُصعّبُ عليك أن تعيش و قبل كل شيء يُصعّبُ عليك أن تموت . تعلمت بأن أستغنى  عن كل شيئ لانني كنت في مكان يحتم عليك أن تتخلى عن كل شيئ  و حيث هناك لافائدة من الأمل في أي شيء.كنت في مكان هناك كانت الحياة عبارة عن سلسلة من المغالطات و سوء الفهم حول مالذي فعله المرء أو حول الأمور التي كان يجب تجنب فعلها.لقد تَعلمتُ بأن لا فائدة من أن أَغضبْ، و لا فائدة من أن أَحزنْ أو أن أُهَدِدْ، لأن لكل شيء مساره و لا شيء يمكن تغييره. عندما أكون قاسياً معكم ليس لأنني أريد اصلاحكم بل لأنكم لحد الآن لا تفهمون  شيئاً من حالتي.
لاتعرفون أي شي عن حال المحكوم عليه بالموت. يبدو أنكم لا تفهمون أنه حتى وجود المحكوم بالاعدام يجب أن يكون على أساس من المبادئ و القوانين يتكأ عليها مثله مثل  كل الموجودات الأخرى. أنتم تتوهمون بأن البرئ المحكوم عليه بالإعدام مختلف عن المحكوم عليه بالإعدام و المذنب فعلياً، بأنه نوع أجمل من المحكومين عليهم  بالاعدام، و لكن الحال ليس كذلك لأن الملفات في كلتا الحالتين متطابقة، لأن قسوة الجلاد في كلتا الحالتين واحدة، لأنه في أعين العالم مدانٌ مثلهُ مثلَ المُذْنِب.
عندها سأل الرجل البدين و الذي بدى عليه السَكَر  أَكثَرَ فأكْثَر، وانحنى على الطاولة ذي الرخام اللامع و التي مع الزمن بان فيها عروق حمراء جميلة ،سأل متعجباً أوَ ليسَ من المفروضِ أن تكون ممتناً لأنكَ أُنقذتَ من موتٍ كانَ محتوماً، أمرٌ لا جدال فيه هو  أنك كنت في عداد الأموات الآن لولا أن معجزة حصلت.
ممتناً  لمن؟ قال بنزق و لكن فيما كان يتحدث أحس بأن أحداً دخل من خلال الباب ووقف خلفه.  ليس ممتناً لكم طبعاً لأنكم كنتم ستكتشفون براءتي متأخراً حتماً  بعد ساعة من تنفيذ الحكم! عن طريق الصدفة، مثل تلك الصدفة التي أنقذتني حقيقة، لا أستطيع أن أكون ممتناً لأن الصدفة عمياء و لن تفقه امتناني.
طلبوا منه أن يشرح لهم بينما المرأة التي كانت قد دخلت للتو  جلست بجانبه، قال ربما أنهم لن يستطيعوا تفهم حالته،  لكن على أية حال كان الأمر  كالتالي من وضع مؤكد أي وضع المحكوم عليه بالاعدام يتحول و عن طريق الصدفة إلى وضع آخر لم يكن مؤكداً بل كان الوضع  أقل يقينا من أي وقت مضى و الأبعد منالاً.
مؤكداً لأن الحكم مبني على المعرفة المتوفرة عندكم وعن قسوة العالم و مؤكد من معرفة أن المرء لا يُحكم بالموت أو  يُكتب له الحياة لأفعال اقترفها و لكن لأن هكذا تكونت تصورات الآخرين عن أفعاله.
لذلك حاول أن يشرح لهم، يجب أن لا يتأثروا من برودته في الحديث عن انقاذه من الموت لأن تلك البرودة هي من منحت العدالة أكثر الأسس ثباتاً.
مع أن الجميع كانوا قد احتسوا الكثير من الخمر  وكان  ذلك كافياً  لاإعطاء انطباع مزعج  لأمسية بدأت بداية طيبة لكنهم حاولوا مع ذلك  مواساته و مواساة بعضهم البعض بالدرجة الأولى و بأن غموضه مؤقت و الرجل البدين قال بأنهم جميعاً متفهمون لوضعه: لقد عانى فترة عصيبة في السجن، عانى فيها من شقاء الحياة و ظروفها القاسية كسجين، و الخبر المفجع عن مصير زوجته و الأمر الآخر الذي بحجم الفاجعة نفسها  هو أن يكون ذلك الشخص الذي كان يُفترضُ فيهِ الصديق الحميم كان عشيقَ زوجته وَ قَاتِلها. مثل هذه الظروف المشمئزة تستطيع أن تقود أي إنسان كان إلى الجنون، و لكنهم جاؤوا به إلى هنا لمواساته و ليس هناك أفضل مواساة من كأس من النبيذ الطيب المذاق  مع صحبة من الأصدقاء، تابع قائلاً، أو لنذهب أبعد من ذلك: امرأة جميلة يجتمع في شخصها الصفتان معاً: المواسية و الحبيبة.
المحكوم عليه بالاعدام نظر بفضول إلى المرأة الجالسه إلى جانبه و هي فسّرت ذلك كحركة تشجعية و مدت ذراعها حول عنقه. شفتاها كانتا ناعمتين, و لونهما أحمر رطب مثل ثمرة توت العليق الناضج بعد تساقط المطر عليها. لقد مرّ وقتٌ طويلٌ وهو لم يرى شفاهاً جميلةً مثل شفتيها و لذلك لم يستطع أن يتوقف من التحديق بهما، و فجأة قَبّلّها، هكذا بسرعة و سهولة، لكن مع ذلك أثارت القبلة انتباه الجميع.
كانت هناك غرفة للخلوة الحميمة داخل غرفتهم المنفصلة و يُدخل إليها من خلال باب جميل مضيء. أثاره ضحك الآخرين و مزاحهم عن القبلة نهضَ و هو يُلاحظُ كيفَ كلّ شيءٍ أَصبحَ واضحاً بشكلٍ مُبهج، شَعَرَ بالخَجَلِ من أفكارهِ الغامضة التي كان يفكر بها منذ قليل و شَعرَ بأن حجاباً من الدفءِ تحولَ إلى غطاءٍ فوقَ ذلك العالمِ الشائك.
كانت مفاتيح الباب معها معقودة بخيط أحمر حول عنقها و حين دخلا الغرفة بادرت بسرعة إلى اشعال  المصباح الصغير المعلق على الجدار  ثم أقفلت الباب مرة أخرى. كانت غرفة صغيرة  جداً و فيها أريكة عريضة، و الأرض كان مفروشاً بسجادة حمراء سميكة. المرأة جلست على الأريكة و أشعلت سيجارتها بعناية، فيما هو بقي في مكانه.
بقي واقفاً هناك و ظهره على الباب، انتابه قلق من احساس رهيب في الغرفة، و لكنه  لم يكن يعرف بعد تحديداً ما السبب. هناك شيء جنوني مع هذه الغرفة و قبل أن يعرف ماهية ذلك، اجتاحه صعقة مرعبة قطع هدوئه المُخْدِر و بعدها عرف ماهية حالة الغرفة: انها تفتقر إلى نوافذ، أحس بأنه محاصر  في داخل زنزانة مظلمة، لا يستطيع الخروج منها، لم تكن هناك فتحات يستطيع أن يخرج من خلالها. يسمع غمغمات الناس في الخارج، وهم يقلبون الأوراق لقد تخيل كيف يُحضّرون جرائدهم على الطاولة و بأعين متقدة رأى كل تلك التفاصيل الحساسة. بداية العناوين:
اغماء الجلاد أنقذ البريء من حبل المشنقة
ثم عنوانا أصغر :
نهاية مثيرة  في حادثة مقتل الزوجة
عشيق الزوجة هو القاتل
لماذا هذه الغرفة تفتقر إلى النوافذ، بادر بالسؤال دون أن يتحرك من مكانه قرب الباب.
لاحاجة للنوافذ هنا، قالت و تابعت تدخين سيجارتها بهدوء، هنا في هذا المكان لايمكث أحداً لوقت طويل أبداً.
عندها شعر بخوف مرعب، شعر و كأن الجدران تزحفُ نحوهُ لتخنقه و السقف الأبيض يَهبطُ و الأرض المفروش بالسجاد الأحمر يصعد إلى الأعلى.
ماذا نفعل هنا  في الغرفة تعالي و افتحي الباب.
لاتكن غبياً ، أجابت و هي تتكور بجسدها على الأريكة، أتظن بأنني لا أعرف كيفَ تَحس؟ تعالَ اقتربْ مني و قبلني، و سوف ترى بأن كل شيء سوف يتحسن بعد ذلك.
ألمْ يَكنْ السقفُ مليئاً بالعناكب، ألم يتعالى ضربات غامضة من كلِّ أرجاء البيت، ألم يُسمع صرخات قوية من القبو؟
لا أريد تقبيلك، قال، هل تعرفين لماذا قَبَلْتُكِ منذ قليل؟ حسناً  لأنني  و في مواجهة احتمال أن أفقد شفتيَّ إلى الأبد، كان عندي شوق رهيب للتقبيل لدرجة أنني بدأت أقبل جدران السجن و أنا أتخيلها أفواه نساء، هل تفهمين ما أعني؟ و لقد لعنت كل تلك المرات السابقة من حياتي التي أضعتُ على نفسي كل مناسبة فيها فرصة للقبلات بسبب الاهمال الصرف.كل المناسبات التي لم أستغل التقبيل فيها زارتني في الليالي و أنا عضضت على شفتيَّ حتى سال منهما الدماء و  عدداً من  الحراس أنذورني من مغبة فعل ذلك و بأنه يجب أن أتوقف عن تلويث جدران الزنزانة على هذا الشكل. و بنفس الطريقة انتابتني قبل موعد الاعدام بأيام رغبة سخيفة بأن أرمي بنفسي وسط الثلوج. تذكرت بسعادة كل المرات التي سقطت فيها وسط الثلج و لعنت كل المرات التي تجنبت السقوط. عندما أُطلِقَ سراحي و خرجتُ من بعد ظهر اليوم كان أول شيء أعمله هو أنني رميت بنفسي على كومة من الثلج.
هل أحببت ذلك؟
عندها أخبرها بأنها كانت خيبة أمل رهيبة لأن معرفته بأنه لن يرى  الثلج مرة أخرى جعلته يضفي على التجربة طابعاً مثالياً بحيث لم يعد من الممكن الآن الاحساس بالمزيد من المتعة من التجربة العادية.
هل أنا أيضاً مخيبة للأمل؟ سألته,  لكنه لم يجب على الفور عن تساؤلها، لأنه كان يشعر بندم كبير كان يستمع إلى الأصوات في الخارج، الوشوشة كانت تجلده كالسياط، لكن فجأة صاح في وجهها: دعكِ من ذلك! أنا ضائع ألا تفهمين ذلك! لقد كنت بالفعل قد وافقت على ذلك. لكن ليس بالأمر السهل أن يُحكمَ انساناً بالاعدام في الصباح و يكتب له الحياة في المساء . ليس سهلاً أن تستبدل الحياة لمحكوم أكيد بالاعدام إلى حياة محكوم أكيد بالعيش بتلك  السهولة التي تستبدل بذلة ملابس.
و لكن لم يكن ذلك ما كان يريد أن يقول لها، وقطعة قميصها مرميٌ الآن كجزيرة مهملة على السجاد الأحمر. كانت تلك هي طريقتها في خلع ملابسها: وقف جامداً في مكانه، بالكاد كان يتنفس، كانَ ينظرُ إليها وفمه مفتوح حتى تخيل له بأنه رأى زوجته تجلس أمامه على السرير ذلك المساء عندما عاد من سفرة بعيدة و خلعت له ملابسها – لا، ليس له بل لشخص آخر ، حركاتها كانت مختلفة تماماً لقد فهم ذلك حينها – ثم في الأيام الرهيبة بعدها و قبل أن يصدق كل ما حدث فهم أكثر  فأكثر، وقف وسط زنزانته و هي جلست على سريره تخلع ملابسها مثل مافعلت هي حينها و أمطرها بكل ما كان يعرف، حتى أتوا راكضين في الممر بمفاتيحهم التي كانت تسمع قعقعاتها.
فجأة لاحظت المرأة ذي الشفتين الحمراوين كيف أصبح يقترب منها بهدوء من فوق السجاد الثخين الناعم و عندما توقف فستانها الأسود عند وركها، رأت بعينين صارختين يديه مثل السكاكين.
بعد أن فتحوا الباب و أمسكوا به بشدة و دخلوا من خلال الدهليز و الجميع كانوا قد حصلوا على ملابسهم، حاول مرتبكاً أن يسمع الموسيقا و لكن يبدو أنها توقفت لهذا اليوم. الخادم الشاحب وقف عند الباب و انحنى للتحية بتكلف دون أن يُظهر ما يعرفه ، لابد أنه مكثَ في الخارج في الطقس البارد لمدة طويلة لأن الوردة المعلقة في عروة سترته كانت متجمدة لاعبير باق فيها.
خرجوا في تلك الليلة الباردة و السماء صافية تزينها نجوم مثل ابر جليدية، الرجال الثمانية أحاطوا به وهم متكاتفين بأجسادهم لكي لا يشعر بالبرد. حلبة التزلج كانت مهجورة و لايضيئها الا مصباح وحيد. قفاز ضائع لطفل ما معلق على عمود سياج الحلبة مثل عصفور ميت. السيارة السوداء قدمت وهي تتمايل نحوهم بمحرك متوقف عن التشغيل. عندما رموا به في المقعد الخلفي كان يعتقد:  بأن هذا النوع  هو من السيارات المرغوبة في مناسبات الدفن. ساروا بمحاذاة حلبة التزلج على الجليد المظلم، لم ينبس أحداً منهم بكلمة، السائق بدا على معرفة أكيدة بالوجهة المقصودة و كأن السفرة قد تم الحجز عليها سلفاً و منذ عام. حلبة التزلج اختفت عن الأنظار و استمرت السيارة في الطريق الشتوي الأبيض. نظر إلى تلك الظهور العريضة الآمنة من أمامه وشعر عضلات الأذرع و هي تضغط على جسده. أغمض عينيه عن  الأشجار المتجمدة و التي كانت تُشاهد من خلال أضواء السيارة الأمامية و عندها  استطاع أن يرى مشيعي الأحد: رجال خشنون بوجوه حمراء و قبعات سوداء عالية، يتدافعون بشدة لركوب السيارة ومن بعدها يجلسون طوال الطريق و هم ينظرون إلى قبعاتهم، و يداعبون بأصابعهم بطانة قبعاتهم بدلاً من البكاء، من مقاعد السيارة  كانت تفوح  رائحة زهور مدافن و دموعٌ ميتة.
هناك قبعة عالية، قال ذلك و حاول أن ينحني بقامته، قبعة عالية و باقة من الزهور .
عبروا جسراً  من فوق مياه متجمدة و بضع أحجار سوداء كبيرة كانت ملقاة هناك  دون مبرر أو معنى، نائمةً فوق الجليد المغطى بالثلج.
لا تحاول، قالوا ذلك و اقتربوا منه بأجسادهم و كأنهم قفص من اللحم  يَسدُّ عليه المنافذ  أكثر فأكثر، لا تحاول معنا.

ستيغ داغرمان
1923-1954


ستوكهولم
2020-07-21
النص المرفق من مجموعة ستيغ داغرمان القصصية  "ألعاب الليل"
نشرت ترجمة القصة  بموافقة من مالكي حقوق مؤلفات ستيغ داغرمان , ستوكهولم, السويد.
(published with the approval from the Stig Dagerman Estate).



 






















 




 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق